العتب مرفوض
بروين حبيب
لو عاش آرثر رامبو في بلد عربي، وتحديدا في زمننا، لاُعتُبِر «شويعرا» في بداية حياته، ولن يستحق الكثير من الاهتمام، كونه حسب خريطة عمره القصير كتب الشعر في مراهقته، وبالكاد دخل عمر النضج فتوقف عن كتابته، كان في الحادية والعشرين من عمره، حين انجذب نحو المغامرة في بلاد الشرق، لتحقيق أحلام أخرى غير الشعر.
بعد عامه الواحد والعشرين يمكن اعتبار الرجل ناضجا، وزمام حياته أصبحت في قبضة يده، إذن لماذا اعتبر شاعرا عظيما، حتى أن أجيالا من الأنتلجنسيا عبر العالم تحمّست له، بمن فيهم نخبنا العربية.
منذ أيام فقط قرأت مقالا للكاتب والناقد البحريني حسن مدن عن مصير بيت رامبو في عدن، بعد أن تخلت عنه السفارة الفرنسية، وتوقفت عن دفع إيجاره رغم تحوله لمركز ثقافي، متسائلا تراها كانت ستفعل الشيء نفسه لو أن البيت موجود على أراضيها أو في بلد أوروبي؟
متحف رامبو أو بيت «العائلة رامبو»، الذي عاش فيه آرثر التلميذ مع والدته وشقيقه وشقيقته بين سنتي 1869 و1875 وهي سنواته التي ميزته، والتي أبدع فيها أغلب نصوصه الشعرية، موجودون فعلا في المدينة التي ولد فيها «شارلفيل» وهو بيت تنظم فيه معارض فنية ونشاطات ثقافية منها استقبال كُتّاب للتفرغ للكتابة. الموضوع الذي أثاره حسن مدن، جعلني أتذكر بيوتا كثيرة في بلاد العرب عبرها مشاهير، خاصة مشاهير الأدب، ولكنّها جميعها لاقت المصير نفسه، ولا أعتقد أن إهمال السفارات لها نابع من نية سيئة، بقدر ما هو تأثير مجتمعاتنا السلبي عليها، فنحن أصلا مهملون في كل ما يخصنا، نهمل كتابنا وفنانينا، نعاملهم بقسوة حتى آخر لحظة في حياتهم، بعضهم بمجرد أن ينطفئ، نُطفئ الأنوار خلفه ليدخل قبره مرتين، فلماذا العتب على هؤلاء الأجانب لأنهم مقصرون تجاه ما نقصر نحن فيه؟
عاشت الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي في عدد من البلدان العربية لفترات قصيرة، وتركت بصْمتها على الأماكن التي نقلتها إلى أدبها، وأكدت كم كان هذا الشرق ملهما لها، لإثراء أدبها ومنحه المزيد من الصفات التي ميزته، فهل نعرف أين أقامت ملكة الأدب البوليسي البريطانية؟ شخصيا لا أعرف، وقد حاولت أن أجد شيئا عن طريق أبحاثي فلم أجد الكثير، سوى أنها عاشت في مصر والعراق وسوريا ، وقد تنقلت بين مناطق عدة، في سوريا على سبيل المثال إذ زارت القامشلي، ودير الزور، والحسكة.
وماذا بعد؟
الصراحة لا شيء، فالحرب مسحت معالم مدن بأكملها في العراق وسوريا، فهل بقي ما يهمنا أين عاشت أغاثا كريستي أو غيرها؟ حتى أهل تلك البيوت أبا عن جد حملوا ما خف وزنه وغلا ثمنه وغادروها، فهل سنبكي على بيت أقام فيه عابر سبيل فقط لكونه كاتبا زارنا من بلاد الغرب؟ لست متشائمة، ولا متفائلة، أنا فقط أقف حيث لا ظِلال لأي حلم لم يعد يتناسب مع فجائعنا الكثيرة وخيباتنا الأكثر. فقد تمنينا كثيرا أن تكون لشعوبنا أوطان آمنة، وبيوت لا تهبط على رؤوسهم بسبب غضب حكامهم، تمنينا أيضا أن يكون لشعرائنا وكتابنا بيوت في أوطانهم لا بيوتا في منافيهم، ولكن ما دام هو ذا حالنا فلما نتألم حين نصغر في أعين غيرنا؟
المؤلم ليس أن نحافظ على بيت رامبو في عدن أو بيت نيكولاي فاسيليفيتش بيرغ في بيروت، أو بيت إيزابيل أبيرهارد في الجزائر…المهم قبل ذلك أن نحافظ على بيوت شعرائنا وكتابنا بكل الذخائر النفيسة التي تحتوي عليها.
إن المؤلم ليس أن نحافظ على بيت رامبو في عدن أو بيت نيكولاي فاسيليفيتش بيرغ في بيروت، أو بيت إيزابيل أبيرهارد في الجزائر…المهم قبل ذلك أن نحافظ على بيوت شعرائنا وكتابنا بكل الذخائر النفيسة التي تحتوي عليها. ألم تنجب هذه الأوطان طه حسين، وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس والجواهري؟ ألم تنجب أم كلثوم، وعبد الحليم، ووديع الصافي وفيروز وفاتن حمامة وأحمد مظهر؟ لقد استثمر الغرب في كل طاقاته الإبداعية، هناك مدن صغيرة تعيش فقط من مداخيل سياحية تقوم على اسم واحد لكاتب أو فنان، فيما يصعب أن نَعُدَّ نحن عدد من أهملناهم من عمالقة أبدعوا حتى آخر نفس من أنفاسهم، فلا نالوا التقدير الذي يستحقون ولا استفادت أوطانهم من بريق أسمائهم وتاريخهم الثري.
وحمدا لله أن نجيب محفوظ أخيرا أصبح له بيت يستقبل فيه محبيه من كل العالم ، حيث جمعت آثاره، ورتبت أشياؤه، في متحف حمل اسمه، وافتتح هذا الصيف قريبا جدا من بيته، وجُعل قبلة للكتاب والمثقفين والرسامين، ولعل وعسى أن تكون هذه البادرة فاتحة خير لإعادة الاعتبار لأماكن كثيرة نشأ فيها كل أولئك الذين صنعوا وعينا وفرحنا وأمسكوا بأيدينا إلى أن وجد كل منا طريقه.
بالطبع كانت البحرين سباقة لترميم بيوت شعرائها وأدبائها وفتحها لقوافل السياح القادمين إليها من كل العالم، لكن هذا موضوع آخر، أؤجله لحينه، إذ لطالما أردت الكتابة عنه، وعن فرادة التجربة فيه، لكن لعل شهادة غيري يكون لها الوقع الأجمل، من وقع كلامي كبحرينية تمدح بلادها، فقد عاش الكاتب الجزائري واسيني الأعرج تجربة الإقامة في أحد هذه البيوت من أجل الكتابة، وأعتقد لديه ما يقوله، لكن حتما سيتفق معي أن لتلك البيوت سحرها الخاص، وأنّنا كشرقيين نجد فيها ما يحرّك عواطفنا، أكثر من بيوت مشاهير الأدب التي رأيت منها الكثير في لندن واليونان، والدنمارك وكثير من العواصم التي زرتها، وأنا مفتونة ببعض كتابها، وقصصها الرّاسخة في ذاكرتي الأدبية والعاطفية معا، فقد ظلت «بائعة الكبريت» تقرفص في قاع ذاكرتي إلى أن زرت متحف هانز كريستيان أندرسن، وأذكر كيف خرجت مسحورة بذلك العالم الصغير الذي صممه خصيصا المهندس الياباني الشهير كونغو كوما ليناسب مخيلة الكاتب، ويقدمه لمحبيه وزواره وكأن الكاتب نفسه صممه.
وقد وقفت أمامه وأخبرته كما لو أنه يسمعني فعلا، بأنه كان على حق حين قال إن قصصه الخرافية للصغار والكبار، حتى أني فهمت من خلال بيته وأشيائه توجهه الإنساني لنصرة الفقراء والضعفاء، وعبقريته التي فهمتها أكثر، أجيال تلت جيله.
إن فكرة الحفاظ على بيوت الأدباء جميلة، ولكنها حتما لن تنجح إن قامت على فعل ارتجالي محض، ولنعد إلى بيت رامبو في عدن، الذي تخلّت عنه السفارة الفرنسية رغم أنه لشاعر عظيم من شعرائها، وقد روى الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير رحلته لإيجاد البيت، والحفاظ عليه وتحويله لمركز ثقافي، وهي رحلة تستحق أن تروى على أوسع نطاق، لكنها رحلة تشبه مغامرة الشاعر نفسه في الشرق، رحلة لا معنى لها، لمغامر ولد ليكون شاعرا في باريس، لكنه اختار قدرا آخر، كتاجر للسلاح، ويا لغرابة الصدف، فالرجل كتب الشعر في بلاده، وحين أقلع نحو الشرق جاءه حاملا للبنادق. بالطبع لا يمكن للفرنسيين أن يمولوا مشروعا كهذا، لا من باب الثقافة ولا من باب التذكير بالتاريخ، خاصة أن الهيئات الرسمية في عدن لم تهتم، ولو أن البيت وجد في أي بلد عربي فلن يهتم به أحد لا من الرّسميين ولا من غير الرسميين… بالتالي يطرح السؤال نفسه: لماذا كل هذا العتب على الفرنسيين؟
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين