باحث في معهد دراسات الأمن القومي: الصراع العربي- الإسرائيلي بصيغته المعهودة يتفكك ويفتح نافذة فرص لتل أبيب
وهج 24 : استمرارا للخطاب السياسي الأمني الإسرائيلي يزعم تقرير استراتيجي صادر عن “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب تولى ترجمته مركز “مدار” أن الصراع العربي- الإسرائيلي بصيغته المألوفة آخذ في الانحسار والتلاشي والتآكل والتفكك.
في هذا التقرير ينطلق الباحث الإسرائيلي اليميني المتشدد بروفيسور دان شيفتان من افتراض مفاده أن معاهدة السلام مع مصر 1979 (اتفاقية كامب ديفيد الأولى) مثلت “بداية البداية” للصيغة الإسرائيلية المتخيلة لنهاية الصراع بصيغته المألوفة (التقليدية)، أما “بداية النهاية” لهذه الصيغة فقد بدأت بالفعل مؤخرا بعد توقيع “اتفاقيات أبراهام” بين إسرائيل وبعض الدول العربية واختباراتها.
ويقول إنه رغم أن التهديدات ضد إسرائيل قد ازدادت حدة، كون “العدو العربي” لإسرائيل في الماضي كان أقل إثارة للإعجاب وأقل خطورة من “العدو الإيراني” في الوقت الراهن، لكن “هذا الأمر لا يعني أن الصراع مع الفلسطينيين قد انتهى بالفعل، وربما لا يُبشر بنهايته أيضا، إلا أن الجديد في هذه الصيغة هو نجاح إسرائيل في كسر، أو تفتيت، الجبهة العربية المعادية لها”. ويقول شيفتان أيضا إنه “رغم هذا النجاح فإن “العنف وعدم الاستقرار” في المنطقة سيظل على حاله، لكن هذه المرة ليس بين إسرائيل والعرب كما كان في السابق، بل بين تحالف عربي- إسرائيلي وبين إيران وتركيا بقيادة أردوغان، في ظل استمرار الصراع مع الفلسطينيين”.
وفي معرض تشخيص شيفتان للوضع العربي، يُشير إلى أن سعي الشكل القومي العروبي في صيغته المعروفة في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتحديدا في العام 1967، لتحقيق التضامن العربي الكامل قد خلق الظروف التي أدت إلى تآكله وتفككه تمهيدا لانهياره التام في العقود التالية. زاعما أن الراديكالية وصلت التي كانت تميز هذا الشكل -وفقا لأهدافها المتمثلة في السعي لتحرير فلسطين والقضاء على أعداء القومية والتوحيد والجماعات الرجعية والمرتبطين بالإمبريالية- إلى طريق مسدود منذ حرب العام 1967 وصولا إلى انهيار الاتحاد السوفييتي.
ويقول شيفتان إنه رغم أن هذه الصيغة العربية قد انتعشت خلال حرب 1973 وحظر النفط، إلا أنها سرعان ما تلقت هزائم متتالية بدءا باتفاقية السلام مع مصر التي تسببت بصدع في نهاية ذلك العقد، مرورا بانهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج نهاية الثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن المنصرم، وصولا إلى دخولها “مرحلة الإنعاش” في أعقاب “الربيع العربي” إلى أن تم الإعلان عن “الموت السريري” لهذه الحالة (التضامن العربي) بعد توقيع اتفاقيات التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل.
بداية البداية
يُشير شيفتان إلى أن “بداية البداية” لنهاية الصراع العربي- الإسرائيلي قد بدأت فعليا مع مبادرة السادات ومعاهدة السلام المنفصلة التي وقعتها أكبر وأهم دولة عربية مع إسرائيل في العام 1979، وهذه الخطوة لم تُمثل فقط نهاية للتضامن القومي العربي بعد أن انسحب الحجر الرئيس منه (مصر)، بل سمحت لإسرائيل بتحويل جزء كبير من استثماراتها والموارد المخصصة للمجهود الحربي (العسكري- الأمني) إلى الساحة الداخلية، الأمر الذي ساهم في تسريع تطورها وعمق الهوة، بشكلٍ كبير، بينها وبين الدول العربية المُعادية. ويزعم أيضا أنه منذ ذلك الحين، توالت العديد من الأحداث التي ساهمت في تآكل هذا التضامن.
في المُقابل، يتبنى شيفتان المعروف بقلقه من “الخطر الديموغرافي” المزاعم الإسرائيلية الرسمية أن الفلسطينيين وحركتهم الوطنية (يُشير إلى الرئيس ياسر عرفات بالتحديد) قد أصروا على إضاعة كل “الفرص التاريخية” لتحقيق السلام وتسوية الصراع ورفضوا كل المقترحات المقدمة في سبيل ذلك، حتى بعد انهيار أوسلو، وصولا إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية. حيث يرى بأن الفشل الحتمي لعملية أوسلو نابع من سوء فهم أساس بين مهندسيها حول طبيعة الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة عرفات وخلفائه. ويرى شيفتان كل ذلك وسط استمرار رهان الفلسطينيين بقيادة عرفات على العُمق العربي للصراع، واستمرار الاستناد إليه، حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو، والتي وإن ألحقت ضررا بإسرائيل؛ إلا أنها أيضا ساهمت في تآكل الدعم العربي للفلسطينيين، حيث وجدت بعض الدول العربية في توقيع الفلسطينيين، ممثلين بمنظمة التحرير، لاتفاق سلام مع الإسرائيليين، سببا ومبررا في الوقت ذاته، للذهاب في نفس الاتجاه (على سبيل المثال توقيع الأردن معاهدة وادي عربة عام 1994).
بعد الربيع العربي
يتنبه “مدار” إلى أن شيفتان يستعرض أوضاع الدول العربية في أعقاب “الربيع العربي” من وجهة نظر أمنية إسرائيلية لا تخلو أيضا من المركب الاستشراقي الصهيوني وإن كانت تستند إلى بعض الوقائع الحقيقية، وهو ما قاد برأيه إلى ازدهار الاستبداد والفوضى والحروب الأهلية والضيق واليأس بشكل لم تشهده المنطقة من قبل. وقد عكست أحداث “الربيع العربي” برأيه الفجوة بين التوقعات العالية والواقع المؤلم، وترتبت نواتج ثانوية إيجابية لهذه الأحداث تمثلت في دحض أوهام “الشرق الأوسط الجديد” وانهيار التضامن العربي في النضال ضد إسرائيل.
إيران وتركيا
يرى شيفتان أن احتمال الهيمنة الإيرانية على الشرق الأوسط يُشكل تهديدا خطيرا لإسرائيل بأبعاد وجودية، فمنذ ذروة قوة التضامن العربي في عهد جمال عبد الناصر، لم يكن هناك أي تهديد للسيطرة على موارده الاقتصادية والفكرية في المنطقة وتعبئتها ضد إسرائيل، بل ويرى أن التهديد الإيراني أخطر من التهديد المصري في ذلك الوقت، استنادا إلى أن التجربة الإيرانية مثيرة للإعجاب، ومتطورة علميا وتكنولوجيا، وتمتلك أدوات استراتيجية مختلفة عن النماذج السابقة.
ويرى شيفتان أن هذا التهديد الخطير لإسرائيل له أيضا ناتج ثانوي مرغوب فيه، في تداعياته على الساحة العربية؛ إذ يدرك الإيرانيون ضعف العرب ويصممون على “فرض هيمنة النظام الثوري” في طهران عليهم، وفي الوقت نفسه يُدرك العرب عجزهم في مواجهة هذا التهديد ويبحثون عن دعم خارجي، ويدرك عدد كبير من دولهم أن الدور الأمريكي التقليدي فقد الكثير من قوته وكثير من دوافعه ومعظم مصداقيته، وأن الجهة الأكثر التزاما في محاربة تطلعات الهيمنة الإيرانية هي إسرائيل.
من ناحية أخرى يرى شيفتان في سلوك تركيا بقيادة أردوغان خطرا استراتيجيا على إسرائيل حتى وإن لم يكن مُثقلا بالخطر النووي كما هو الحال بالنسبة لـ”الخطر الإيراني”، ويتجلى ذلك في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، حيث تسعى تركيا للسيطرة على عمليات التنقيب عن الغاز، في تجاوز لحقوق اليونان وقبرص وإلحاق الضرر الشديد بمصالح مصر وإسرائيل. إضافة إلى سياسات أردوغان على الحدود الجنوبية لتركيا وشمال سورية، وتهديد الأكراد، ودعم حركة “حماس” في غزة، والسماح لعناصرها وقادتها بالعمل عبر أراضيها، وتقويض مكانة إسرائيل في القدس ووضع الأردن الخاص في الحرم القدسي.
سياسات الولايات المتحدة
أما بخصوص سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فيُشير شيفتان إلى وجود ثلاثة عوامل تساهم في إبعادها، تتمثل في حاجتها لتركيز جهودها على المنافسة مع الصين، استقلالية الطاقة ووقف الاعتماد الأمريكي على مصادر الطاقة في المنطقة بالإضافة إلى أن تواجدها غير المجدي في العراق وأفغانستان جعل التدخل العسكري المكثف في المنطقة مستحيلا سياسيا. وقد أضيف إلى هذه الاعتبارات في عهد أوباما أيضا استعداد أمريكي للابتعاد عن أجزاء مهمة من مكانتها كقوة عظمى، وعن المسؤوليات المستمدة من تلك المكانة.
اتفاقات التطبيع
ويرى شيفتان أنه وفي ظل الاستعراض السابق، تأتي “اتفاقيات أبراهام” لتضفي طابعا مؤسسيا على الواقع الحالي، وحتى على ما كان قائما قبلها بشكلٍ سري، يُعطي تعبيرا حقيقيا من شأنه تعزيز الرسالة وتطوير زخمها. ويقول إنه رغم عدم إبداء إدارة جو بايدن حماسا كبيرا لهذه الاتفاقات ومسارها، إلا أنها برأيه لا تستطيع التراجع عنها ولا يُمكن لها إظهار معارضة، خصوصا وأن هذا التوجه آخذ في الازدياد. وإن إحدى أهم الرسائل التي ترتبت على توقيع هذه الاتفاقات، بحسب شيفتان، تتمثل في تبديد الأسطورة التقليدية القائلة بأن للفلسطينيين تأثيرا بعيد المدى على استقرار المنطقة وأنهم يمتلكون حق النقض (الفيتو) على العلاقات العربية- الإسرائيلية، وأن ذلك أدى إلى تآكل الموقف الفلسطيني بشدة، وحتى لو سعت إدارة بايدن لتجديد المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية والأونروا وإعادة فتح القنصلية في القدس كسفارة للفلسطينيين، فلن يغير هذا التوجه من حقيقة هذا التآكل. ويُشير شيفتان إلى أن الاختبار الأهم لـ”اتفاقات أبراهام” كانت ردة فعل العالم العربي والإسلامي بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فمنذ العام 1947 كانت قضية القدس تعتبر حساسة للغاية ومن شأنها أن تتسبب بثورات غضب إسلامي وعربي.
عدوان “حارس الأسوار”
بالإضافة لذلك يُشير شيفتان إلى أن مرونة التحالف العربي- الإسرائيلي قد خضعت للفحص أيضا في محطة أخرى أكثر عملية (عملية “حارس الأسوار”) في أيار المنصرم؛ ففي السابق كانت تُثير مثل هذه الحروب الإسرائيلية موجة من الغضب في الوطن العربي قد تصل إلى حد قطع العلاقات معها، لكن من الناحية العملية يرى شيفتان أن رد فعل الرأي العام العربي كان ضعيفا.
المصدر : القدس العربي