من فيينا إلى جنيف … مفاوضات ترتيب ساحات التمركز !

فاديا مطر….. 

 

-على غرار ساحات التصادم العسكري التي نشرتها الولايات المتحدة عبر العالم لتحصيل القبضة الكبرى في السياسة العسكرية الدولية ،تتخذ ساحة السياسة فرصتها الأخرى في تحصيل ترتيب تلك الساحات على محصلات التصادم العسكري ، حيث تعتمد واشنطن فيها على إدارة جديدة تعيد ترتيب إتفاقات كبرى مازالت في بعضها منبثقة من بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية و حقبة الحرب الباردة وصولاً إلى عقدين ماضيين تريد منها واشنطن ترتيب تلك المفاوضات لضمان بقاء المعسكر الغربي و الصهيوني تحت قبة “التفوق” على ميراث المستجدات السابقة و الحالية ، فواشنطن الرازحة تحت نهج إستراتيجيات خسرت فيها الكثير من نقاط القوة تحاول مجدداً العودة إلى مواجهات إستنادية تزيح عن كاهلها تعب تعدد الساحات العسكرية ، و تحصيل الأوراق الضاغطة ضد مناوئيها بأقل تكلفة ، خصوصاً بعد تعاظم القوة الإيرانية و تسيد الصين مقاعد دولية علي كل الصعد و تنامي القوة الروسية خارج الحدود بعد أن شغلتها واشنطن لعقود بتفكك الإتحاد السوفييتي و إنهماك موسكو بترتيب البيت الداخلي الروسي و غيابها بشكل كبير عن الساحة الدولية ، مما فرض على واشنطن النظر بعدة إتفاقيات تواكب مصالحها في العالم بالشكل الحالي ، فما سمي “الربيع العربي” كان فرصة لخلط أوراق المنطقة كما فعل إنهيار الإتحاد السوفييتي في مطلع تسعينييات القرن المنصرم ، وبات العام 2011 بمسمياته الجديدة فرصة ذهبية أكبر لواشنطن لرمي أوراق ما تحت الطاولة فوقها ، خصوصاً بعد دخول سوريا مرحلة الحرب الكونية ، وما إستجد من تواجد روسي في منطقة هامة من شرق المتوسط تلبي تطلع المعسكر الشرقي من آسيا الوسطى الى شمال إفريقيا ، فقد جاءت مفاوضات فيينا النووية مع إيران في وقت كانت واشنطن قد إنسحبت من الإتتفاق النووي للعام 2015 لترتيب خطوط عريضة على قواعد إشتباك جديدة لم تفلح في تغيير أي منها لضم الإتفاق إلى ما تراه واشنطن و تل أبيب أهم من الإنسحاب منه في العام 2018 و هو برنامج إيران الصاروخي و القدرة العسكرية الهامة في مياه الخليج و سوريا و اليمن و العراق ، لكن الفشل في جر إيران إلى هذا الحيز و،ة بدء القبول بالعودة الى إتفاق العام 2015 جعل واشنطن ترتب ساحاتها خارج السرب الإسرائيلي ، فهو خيار لم ترى فيه تل ابيب بداً من إزاحة الستار عن تصرفات فردية تلبي الداخل الإسرائيلي نفسياً على الأقل ، و لو على حساب الإنفكاك من حلّ أوروبا و الولايات المتحدة ، لا بل العودة الى إتفاق نووي لا يأخذ بعين الإعتبار المصالح الإسرائيلية هي خطوة برأي تل ابيب “إنفردية” ربما تقابلها خطوة إنفرادية إسرائيلية تجاه إيران و لو بحرب إعلامية و نفسية لا تتجرأ تل أبيب ترقيتها الى مواجهة عسكرية نظراً لتباعد الرأي مع واشنطن و الشريك الأوروبي فيها ، و متكلفات تلك الخطوة على كل الصعد ، حيث عبّر رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود اولمرت في مقابلة على القناة 12 الصهيونية في 10/يناير كانون الثاني الحالي عن ما يدور حقيقة في الخلج الإسرائيلي من أن “الخيار العسكري لعملية شاملة ضد النووي الإيراني هو مجرد كلام فارغ ، و أن الإتفاق النووي “غير الجيد” للعام 2015 كان برأيه أفضل من الوضع الذي سبقه ” ، فهذا كلام ترى فيه تل ابيب حتمية حقيقة لا يمكن الخروج من إطارها المنطقي و الواقعي لما له من تداعيات كبرى حتى على الوجود الإسرائيلي ، فهو أيضاً ترتيب لساحة خارج النطاق القادر على تغيير موقع المعادلة الدولية بوجود القوة الإيرانية التي إرتبطت إرتباطاً إستراتيجياً بالساحة الروسية التي تستضيفها جنيف بمرحلة الإستقرار الإستراتيجي في مفاوضات الضمانات الأمنية على خلفية التوتر على حدود اوكرانيا ، فالأخيرة باتت محط القلق الأمريكي لما يمكن أن يتطور تدريجياً نحو نسف وجود الناتو في الحيز الأكبر للضمانات الروسية خصوصاً بعد إنسحاب موسكو من معاهدة الأجواء المفتوحة ، و التصريحات الروسية قبيل محادثات جنيف في 9/كانون الثاني الحالي التي أكدت فيها أن لا تنازل في الشروط الروسية تجاه أزمة أوكرانيا و حلف الناتو فضلاً عن السعي لتقريب وجهات النظر حول الأمن الأوروبي ، فهو وضع مستجد لإبرام إتفاقات إعادة التمركز الأمريكي في أوروبا الشرقية بدلاً من آسيا الوسطى التي خرجت منها واشنطن بخسائر كبرى ،حيث ترى واشنطن في جنيف و بوركسل فرصة آخرى لترتيب ساحاتها مع موسكو من بوابة أوروبا الشرقية مع أغلب الإعتقاد بأن واشنطن لن تستطيع تحصيل الكثير على ضوء ما فرضته موسكو من شروط تقع فيها حتى اوكرانيا بموقع الضعيف إعتماداً على واشنطن، خاصة بعد إقرار الكونغرس الأمريكي قانون الدفاع السنوي بعد تصويت المشرعون على مطالبة الرئيس بايدن بصياغة إستراتيجية لتحويل العمليات التي تقودها الولايات المتحدة في الشمال الشرقي لسوريا إلى مليشيات “قسد” على الأرض ، وبحسب مصادر أمريكية مطلعة فإن إنسحاب واشنطن من سوريا بات يربك ساحة بايدن أمام ما يسمى “صقور الكونغرس” ،فهي خطوة تحتم على وزير الخارجية الأمريكي تقديم تقرير للكونغرس يوضح تفصيلياً جدول زمني لتسليم “قسد” حركة الأرض ، وهو تنازل في ساحة آخرى من ساحات الإشتباك أمام موسكو ، لا بل هو خروج سيشبه خروج آسيا الوسطى الذي لم يرتكز حتى الأن على منصة ثابتة في العراق ، مما يجعل من موقف الرئيس بايدن داخلياً موقفاً مهتزاً خصوصاً في تشرين الثاني القادم موعد إنتخابات التجديد النصفي التي يمكن أن تطيح الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ ومجلس النواب بحسب مصادر صحفية ، فالترتيب الأمريكي للساحات السياسية يتهاوى تحت خسارات الميدان العشوائي ، وهي سياسة تحتاج منها واشنطن ترتيبات مستقبلية لا تعيدها الى فترة الإنسحابات تحت الضغوط أو فقدان الهيبة و خسارات الجملة ، و ما يمكن أن يؤثر في طبيعة التحالف مع أوروبا التي بدأ المستشار الألماني اولاف شولتزر أولى خطوات شق عصا الطاعة فيها ، بعد تصريح الأخير أن ألمانيا حريصة على إمدادات سوق الطاقة الروسية خصوصاً بعد العام 2024 و متطلبات ما بعد تلك المرحلة ، و هو ما يحتاج من واشنطن أيضاً إعادة النظر بتلك الساحة نظراً لما يمكن أن يستجد ، فهل تستطيع واشنطن ترتيب كل تلك الساحات ؟ أم أن تعاظم القلق الأمريكي سيطرح ساحات آخرى ربما لن تحصد منها واشنطن ما هو أفضل من الحالي ؟ هي برسم القراءة الأمريكية للضفتين الدوليتين .

كاتبة وإعلامية من سورية

قد يعجبك ايضا