شبكات التجسس للعدو في لبنان: الطوائف المذعورة بين أخطاء التاريخ وعقم السياسة وتورّط الإعلام
ندى حطيط …..
عشرات الشبكات العنقوديّة من العملاء للموساد الإسرائيلي اخترقت النسيج اللبناني تحت واجهات عديدة من منظمات المجتمع المدني (غير الحكوميّة) إلى الأجهزة الأمنيّة والتنظيمات اللبنانيّة والفلسطينيّة في ذاك البلد المنكوب. هذا ما تمّ الكشف عنه الأسبوع الماضي عبر إحدى الصّحف الصّادرة في بيروت، وما لبث تحوّل مادة لجدل حادّ على الشاشات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعيّ – وفي تلك المدينة كل كبيرة وصغيرة موضوع للجدل والتوظيف والتراشق – وذلك رغم بيان من قوى الأمن لم ينفِ مسألة الكشف عن تلك الشبكات بقدر ما ندد بنشر تفاصيل (غير دقيقة) عنها.
الجدل، مسيساً على الطريقة اللبنانيّة، كما بيان قوى الأمن الذي فعلياً لا يقول شيئاً أفقد الخبر الكثير ممّا يحمله من الخطورة، وكاد يطيح بالأسئلة الأهم: كيف وصلنا إلى هنا؟ وما مبررات هذا الانكشاف العريض في مواجهة اختراقات العدوّ الأمنيّة – مع أنّ تسميّة العدوّ أصبحت مجالاً للأخذ والردّ هذه الأيّام – وهل ثمّة من وسائل لوقف هذا الانكشاف؟
مكر التّاريخ: الطوائف المذعورة من الطوائف
بالطبع فإن لبنان، بحكم جواره للأراضي المحتلّة كان منذ التشكيلات الأولى الجنينيّة للأجهزة الأمنيّة السريّة لليهود في فلسطين وقبل حرب 1948 وقيام الكيان، هدفاً للاختراق، وبقي كذلك دائماً لا سيّما بعد تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين إليه وتحوله في مرحلة ما بعد «أيلول الأسود» و»اتفاق القاهرة» إلى قاعدة رئيسة للعمل الفدائي. ولا شكّ أنّ هذا الاستهداف سيستمر دائماً بحكم طبيعة التكوين العدائي للدّولة العبريّة كجسم غريب مزروع عنوة في قلب الشرق العربي، والتاريخ الدّموي المعقّد لسلسلة لا تتوقف من الغزوات والاعتداءات والاغتيالات التي تعرّض لها لبنان من قبل العدو القابع جنوباً.
لكن أن يستهدفك عدوّ أمر، وأن تكون جبهتك مكشوفة بالكامل أمر آخر تماماً. ولن يمكن بأيّ حال فهم ما يجري من اختراق واسع دون السياق التاريخيّ لتأسيس لبنان نتاجاً لتجربة استعماريّة قديمة فرضت ظروفاً موضوعيّة على منطقة اقتطعت بحكم القوّة القاهرة من محيطها الإقليمي، ونُصّبت فيها بتوافق القوى المستعمرة – بريطانيا وفرنسا – (دولة) لم تكن سوى توافق ملفق بين أمراء طوائف متنازعة رفل كلّ منها تحت رعاية دولة أجنبيّة ما، في مواجهة عبثيّة مستدامة مع بقيّة الطوائف.
ومن هذا التأسيس المسموم، لم يجد بعض اللبنانيين – لا سيّما بين أمراء طائفة الموارنة دون أن تقتصر عليهم بالطبع – غضاضة من التعامل مع المشروع الصهيونيّ في فلسطين المنتدبة، ولاحقاً مع الدّولة العبريّة كحليف (موضوعيّ) يستعان به بوسائل متعددة لتحسين المواقع في الصراع الدّاخلي المستمرّ داخل الكيان اللبنانيّ المأزوم. وهناك أدلّة لا سبيل لإنكارها على أنساق من هذا التعاون المبكّر مع شخصيات لبنانيّة بنت سيطرتها على طوائفها عبر تحويلها إلى كتل مذعورة من جيرانها الأقرب، ومستعدة للتحالف مع الشيطان ذاته بحثاً عن أمان موهوم.
وللحقيقة فإن قنوات التواصل العريقة تلك مع العدّو تعاظمت لاحقاً، وأدخلت الكيان كلاعب أساس في السياسة المحليّة للبلاد تحت لافتات عديدة وكادت إثر الغزو الإسرائيلي عام 1982 أن تتحوّل إلى علاقة تبعيّة معلنة في ظلّ اتفاق سلام مزعوم، أسقطه بقيّة اللبنانيين بالقوّة. وعلى أيّ حال، لم تجّف تلك القنوات أبداً، ومن الجليّ أن البيئة التي أنتجها في قلب الطوائف التي تعيش وهم الاستهداف من اللبنانيين الآخرين كفيلة باستمرار، بل وتوسّع مدى الانكشاف على العدو ومنحه خطّ إمداد لا ينضب من الأفراد المهيأين نفسيّاً للسقوط، والذين سقف وعيهم أن الخيانة مجرّد وجهة نظر أخرى لا أكثر.
عقم السياسة: جمهوريّة الآفاق المغلقة
استتبع تأسيس الكيان اللّبناني كمنجز استعماري محض أن نشأت دولة (مسخ) لا يكفيها أنّها ولدت مشلولة نتيجة البنية الطائفيّة للسلطة فيها، بل ومُنحت بمبضع المستعمر حدوداً وظيفيّة دون موارد كافية لتدبير معيشة السّكان. تقاطع سيطرة أمراء الطوائف مع هزالة البنية الاقتصادية خلق مناخاً من غياب شبه كليّ للعدالة الاجتماعيّة – حيث طبقات عبثيّة الثراء مقابل دائرة واسعة من الفقر المدقع يوازيه سعي محموم للطبقة الوسطى في مطاردة أحلام الاستهلاك البرجوازيّ المغربن (نسبة إلى الغرب) المُسرف .
هذا المناخ الذي جعل من الترّقي الاجتماعي بالطرق المشروعة خيالاً لا سبيل لتحقيقه وأفقاً مغلقاً بشكل كليّ أمام شبان طموحين يخضعون لاستثارة استهلاكيّة مكثّفة، أنتج أمرين: أفراداً كثيرين مصابين بهشاشة مستعصية، وقدرة لا سقوف لها على ارتكاب كل الموبقات وتقبّل الفساد لتحصيل سبل العيش والثروة، دون أيّ مناعة وطنيّة أو دينية أو حتى ذاتيّة. وهذه الهشاشة، وتلك الجُرأة على الفساد وصفة عبقريّة كما لا يخفى لتسهيل إسقاط الأفراد في شبكات الخيانة واستقطابهم للعمل ضدّ مجتمعهم وناسهم في أيّ مكان أو زمان. الأمر الآخر هو فساد السياسة التي لا تقوم إطلاقاً على برامج وأيديولوجيّات نهضويّة، بل تحوّلت بدورها إلى ملعب للمزايدات وتجارة الكوموسيون لكل جهة مستعدّة للدفع نقداً لأجل مدّ نفوذها إلى هذا البلد، فلم تترك للجيل الجديد أيّ مساحة للصراع السياسيّ الديمقراطيّ خارج نطاق صراع الطوائف، وأورثته يأساً مطلقاً من إمكان التّغيير والمشاركة في صياغة الحاضر أو صناعة المستقبل.
تردّي الإعلام: فضاؤنا المنتهك وشاشاتنا المأجورة
الفخ الطائفي الذي بناه الاستعمار لهذا البلد تمدد لكل جوانب حياة المجتمع بما فيها السياسة والتعليم والمؤسسات القضائيّة والأمنية والاقتصاديّة وبوقاحة فاقعة إلى الإعلام. فالشاشات اللبنانيّة وأدوات الإعلام الجماهيريّ موزّعة بعناية وفق التقسيم الفئوي الطائفيّ، وتسيطر عليها ذات العائلات التي تتقاسم السيطرة على السياسة وتبادل المصالح الفاسدة. ولذلك لا تلعب هذه القنوات أيّ دور في تحصين وعي اللبنانيين وطنيّاً أو قومياً في مواجهة كل تأثير أجنبي، لا بل ويسهل اتهام غالبها بالانخراط المباشر والكثيف في الترويج لأجندات سياسيّة لا- وطنيّة مدفوعة الثّمن، والشراكة الفعليّة في حماية الفساد والأوضاع القائمة.
وباستقالة معظم الإعلام اللبناني من دوره الوطنيّ والقوميّ، يُترك المواطنون اللبنانيّون ضحيّة سهلة للدعاية الصهيونيّة الموجهة، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ أو من خلال منصّات البثّ الرقمي العالمي (نتفليكس وأخواتها) على الانترنت المُتخمة بالمواد البصريّة الجذّابة على بطولات الموساد وأجهزة الأمن الإسرائيلية وتقديم منسوبيها كنماذج للشجاعة والذكاء وحسن التصرّف. وإذا كان الموساد نفسه – كما في تقرير للواشنطن بوست الأمريكية – يشعر بالانتشاء من الدّعاية الإيجابيّة المكثّفة التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعيّ والأفلام والمسلسلات الدراميّة على منصات البث الرّقمي، والتي سهلت استقطاب (إسرائيليين) أكثر للعمل السريّ، فلا شكّ أن ذات المواد التي تصل بلا قيود إلى قلب كل بلد عربيّ، وضعت العمل الاستخباراتي الإسرائيلي أيضاً في صورة الإثارة وامتلاك القوّة كفريق، والقدرة اللا محدودة على الفعل الفرديّ، والتي تجد بعض العقول غير الواعيّة مستعدة للتماهي معها وابتلاع خداعها المشغول بحرفيّة صانع سموم، الأمر الذي يؤدي بدفع الأغرار – وكذلك الذين لديهم مظالم – إلى استعذاب التوّرط في العمل مع هذا الجهاز المخابراتيّ الاستثنائي – وفق نتفليكس دائماً.
التاريخ والسياسة والإعلام: ثلاثي الانكشاف
بين هذه الأقانيم الثلاثة المترابطة، فإن مسائل السقوط الفرديّ للبنانيين – ومواطني دول عربيّة أخرى لا يختلف وضعها كثيراً عن لبنان – تبدو مجرّد تفصيل فرعيّ في صيغة مجتمعات بُنيت لتكون معبراً سهلاً لمصالح الاستعمار ومطيّة لكل طامع. وكسر هذه الحلقة المفرغة يبدأ دائماً وحصراً من تصحيح أخطاء التاريخ قبل التعامل مع حتميّة الجغرافيا.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن