نتنياهو الـ”بن غفيري”.. من كذبة “تقليص النزاع” إلى الإسراع في ضم الضفة الغربية
التصعيد الجاري في الضفة الغربية وجولة الانتخابات التي أصبحت وراءنا والحكومة المتوقعة برئاسة نتنياهو، كلها تبعث الحياة في عدد من المفاهيم المغسولة التي يستخدمها الخطاب السياسي بخصوص النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين. يبرز من بينها مفهوم “تقليص النزاع” بالصيغ المختلفة – من “إدارة النزاع” ومروراً بـ “السلام الاقتصادي” وانتهاء بـ “رفع مستوى النزاع”. ممثلو معظم الأحزاب منحوا هذه المفاهيم وزناً كبيراً بوعودهم للناخبين في الدعاية الانتخابية، وكأن الأمر يتعلق بدواء عجيب صنع بمهنية لمعالجة النزاع الدموي. نتنياهو، الذي سيقع مرة أخرى في الفخ السياسي، بين الادعاء الصهيوني الديني بالترويج لضم الضفة الغربية والتزامه باتفاقات إبراهيم لتجنب ذلك، إضافة إلى الضغط المتوقع من الإدارة الأمريكية الحالية ومجلس النواب هناك، سيسعى إلى الخروج من الفخ بإحياء أسطورة “السلام الاقتصادي” و”وتقليص النزاع” حتى لو حدث العكس على الأرض، الأمر الذي سيؤدي إلى توسيع النزاع.
في المعسكرين السياسيين مؤيدون لسياسة “تقليص النزاع”: كثير من مؤيدي حل الدولتين يعتقدون أنه غير قابل للتطبيق في هذه الأثناء، لذلك يجب العمل على تقليص النزاع ومنع تصعيده حتى يتغير الواقع، أو أن من يرفضون حل الدولتين يعتقدون أن تقليص النزاع هو الطريقة الصحيحة للعمل. هذا هو موقف نتنياهو، الذي كتب في 1995 في كتابه بعنوان “تحت الشمس”: “دولة م.ت.ف التي ستزرع على بعد 15 كم عن شواطئ تل أبيب ستشكل خطراً قاتلاً وفورياً على الدولة اليهودية”. لذلك “فإن خطة الحكم الذاتي تحت سيطرة إسرائيل هي البديل الوحيد”.
وكما قال بني غانتس في هذا الأسبوع في مقابلة مع موقع “سيروغيم”، “يعتقد اليسار في إسرائيل أن الحل هو دولتان لشعبين. أنا ضد ذلك. بدلاً من التدهور إلى دولة ثنائية القومية، سنقلص النزاع”، 30/10. وهذه ليست سوى أمثلة. ليس مفاجئاً ألا يشعر أي سياسي بأنه ملزم بتفسير على ماذا يتركز النزاع، قبل أن يطرح موقفه بشأن طرق تقليصه. والجمهور لا يطلب توضيح ذلك. لو كان هناك تطرق لهذا الموضوع لأمكن رؤية أنه لا علاقة بين الخطوات العملية التي يقترحونها، وهدف “تقليص النزاع”، فمعظم هذه الخطوات تضر على المدى البعيد.
الفرضية الشائعة باعتبارها تعويذة في أفواه السياسيين هي أن الجار الشبعان هو جار أقل عداء، وهناك من يؤمنون بأنه سيتنازل عن طموحاته الوطنية وربما يقلصها. حسب رؤيتهم، فإن التركيز على تطبيق “تقليص النزاع” يجب أن يكون على خطوات اقتصادية تعود بالفائدة على الفلسطينيين. هذا خلافاً لكل العبر التاريخية التي أثبتت العكس، عندما عمل الاستيطان العبري ودولة إسرائيل حسب هذه الفرضية الخاطئة. متى كان النزاع بيننا وبين العرب في هذه البلاد حول الرفاه الاقتصادي؟
النزاع هو على هذه البلاد والحق في إقامة دولة فيها. هذا نزاع جغرافي – وطني في أساسه، حتى لو كانت ترافقه جوانب دينية. أي محاولة لتقليص النزاع يجب أن تنشغل بالمسألة الجغرافية. تقليص النزاع يعني تقليص مساحة النزاع بين الطرفين. المراحل التدريجية لعملية السلام مع مصر وإخلاء شبه جزيرة سيناء – اتفاقات الفصل (1974) والاتفاق المؤقت (1975) واتفاق الإطار (1978) والاتفاق الدائم (1979) وإخلاء سيناء (1982) – يجب أن تقف في أساس المنطق والتطبيق الصحيح لفرضية “تقليص النزاع”. بهذه الطريقة بنيت أيضاً اتفاقات أوسلو: في المرحلة الأولى اتفاق مؤقت، الذي ستنقل إسرائيل في إطاره كل المناطق المحتلة إلى صلاحيات السلطة الفلسطينية، باستثناء المواضيع التي ستناقش في المفاوضات على الاتفاق الدائم: القدس، المواقع العسكرية والمستوطنات؛ وفي المرحلة الثانية الاتفاق الدائم. إن نقل مناطق “أ” و”ب” إلى صلاحيات الولاية الفلسطينية قلص النزاع، لأن إسرائيل لا تتواجد (بشكل عام) في هذه المناطق ولا تدير حياة الفلسطينيين فيها بشكل مباشر.
بصورة مشابهة، طبقت أيضاً خطة الانفصال عن قطاع غزة. إسرائيل في الحقيقة تسيطر على غلاف غزة، لكنها لا تدير الحياة اليومية فيها، وهي تدير الحرب ضد حماس والجهاد الإسلامي بنماذج عسكرية تقليدية وليس كشرطة احتلال. هذا يفسر حقيقة أنه في السنوات الخمس التي سبقت الانفصال كان لإسرائيل 147 قتيلاً، في حين أنه منذ الانفصال وحتى الآن، خلال 17 سنة، كان 122 قتيلاً من التصعيد المرتبط بالقطاع.
وهكذا هي الخطوات التي اتخذها الجانب العربي لتقليص النزاع. مثلاً إلغاء ضم الضفة من قبل الملك حسين في 1988، الذي مهد الطريق لاتفاق السلام بين الأردن وإسرائيل في 1994، الذي أعادت في إطاره إسرائيل للأردن المناطق التي سيطرت عليها في العربة. اعتراف م.ت.ف بقرارات الأمم المتحدة 242 و338 في 1988، والاعتراف المتبادل الرسمي من قبلها بدولة إسرائيل في 1993، قلصت مساحة النزاع الذي قبل ذلك كانت فلسطين – أرض إسرائيل الانتدابية كلها، وتركت للمفاوضات في الاتفاق الدائم فقط المناطق التي احتلت في 1967.
من أجل تقليص النزاع الآن، بالمعنى الحقيقي والصحيح لهذا المفهوم، يجب نقل مناطق “ج” إلى السلطة الفلسطينية كما فعل نتنياهو في إطار “النبضات” في 1998 (كجزء من مذكرة واي)، وعاد وعرض العمل في 2014 حسب شهادة المبعوث الأمريكي في حينه مارتن اينديك (سروغيم، 31/10). هذا المنطق وقف في أساس الخطة الرئيسية للانفصال لاريئيل شارون، وخطة التجميع التي وضعها إيهود أولمرت في الضفة، التي عرضت نقل مناطق “ج” وإخلاء المستوطنات المعزولة على ظهر الجبل لإعطاء الفلسطينيين تواصلاً جغرافياً في مناطق “أ” و”ب”، التي ستمكن من تطبيق خطة تطوير في مجالات مختلفة وقدرة على الحكم.
ماذا يشمل “تقليص النزاع” حسب نتنياهو وغيره الذين يؤيدون هذه المقاربة؟ زيادة عدد تصاريح العمل من القطاع، ومنح تصريح للبحث عن عمل في إسرائيل لفلسطينيين من الضفة، وزيادة مساحة الصيد أمام شواطئ غزة وما شابه. هذه الخطوات كان يمكن أن تساعد لو رافقتها الخطوات الجغرافية التي ذكرت آنفاً. على المدى القصير، ستساهم هذه في رفاه عشرات آلاف العائلات الفلسطينية، لكن ليس لذلك أي صلة بتقليص النزاع. بالعكس، وجود مئات آلاف العمال الفلسطينيين في إسرائيل في ظل غياب عملية سياسية مهمة سيزيد إمكانية كامنة للتصعيد والعنف من قبل الطرفين بعدد لا يحصى من نقاط الاحتكاك اليومية (كما حدث في الانتفاضة الأولى). على المدى البعيد، ستكون التداعيات أكثر خطورة. تطبيق السياسة كانت التي بدايتها في فترة وزير الدفاع موشيه ديان، التي يقومون الفلسطينيون في إطارها بدعم اقتصادهم بواسطة إسرائيل- يعملون فيها ويحصلون على جزء من الخدمات الصحية (بدفع مقابل) ويشترون الكهرباء ويستوردون ويصدرون ويجبون الضرائب غير المباشرة وما شابه – هذه السياسة تحافظ على اعتمادهم على إسرائيل وتمنع تطوير مؤسسات الدولة القادمة.
ليس متوقعاً أن يطرح نتنياهو مجدداً فكرة التقليص الجغرافي. وكشرط لوجود حكومته في ظل غياب القدرة على ضم المناطق، سيسمح نتنياهو لبن غفير وبتسلئيل سموتريتش بتعزيز وتسريع خطوات معاكسة لفرضية “تقليص النزاع” التي تجري يومياً في الضفة: توسيع المستوطنات، وتجاهل البؤر الاستيطانية غير القانونية، وشرعنة بؤر استيطانية غير قانونية، وإعطاء تصاريح لمزارع زراعية لليهود، وعنف المستوطنين ضد الفلسطينيين والإسرائيليين وجنود الجيش الإسرائيلي، والسيطرة على أراض، وشق شبكة طرق سريعة للمستوطنات المعزولة وما شابه. هذه الخطوات تزيد “مساحة وجه الاحتكاك” وتؤدي إلى عنف متبادل وتلزم الجيش بتخصيص ليس أقل من 55 في المئة من قواته المقاتلة في الضفة في الوقت العادي وأكثر أثناء التصعيد.
يبدو أن الحكومة التي ستتشكل ستصل إلى رقم قياسي جديد في تبني المفاهيم المغسولة وعلى رأسها “تقليص النزاع” و”السلام الاقتصادي”. على الجمهور أن يعرفها ويفهم معناها. “تقليص النزاع” هو قضية جغرافية، والسعي إليه هو المنطق الذي وجه كل اتفاقات إسرائيل حتى الآن. استخدام هذه المفاهيم من قبل حكومة نتنياهو المتوقعة ليس سوى ستارة من الدخان، التي تستهدف إخفاء استمرار الاحتكاك والضم الزاحف إلى حين خلق دولة واحدة ليس فيها مساواة. ربما أن انتخابات 2022 سيتم تذكرها كـ “نكبة” للديمقراطية الإسرائيلية.
بقلم: شاؤول اريئيلي
هآرتس 4/11/2022