هل نحن مقبلين على حرب أهلية في السودان
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات….
الأوضاع في السودان هكذا كانت قبل إشتعال هذه الحرب الداخلية الغير معروف نهايتها، وأقول كمراقب ومتابع للشأن السوداني بأن السودان الشقيق اليوم وقع في المحظور بعد أن إشتعلت الحرب بين الجيش السوداني النظامي والدعم السريع، وكل المتابعين للشأن السوداني والرأي العالمي والأقليمي والعربي وحتى السوداني يطرح هذا السؤال وهو : ترى من سينتصر معسكر البرهان وينتهي دور حميدتي ..؟ أم أن الإقتتال سيتحول إلى صراع داخلي طويل الأجل ..؟ ويحدث هذا الصراع العسكري/ العسكري بعد أن كانت قد إندلعت الإشتباكات بين وحدات من الجيش السوداني موالية لرئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم ( حميدتي )، وكانت قد إندلعت هذه الاشتباكات، وهي الأولى منذ أن أشترك البرهان وحميدتي في الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019، بسبب خلاف حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش، في إطار المرحلة الإنتقالية نحو الحكم المدني، والتي كان من خلال إنقلاب عسكري، في أكتوبر / تشرين أول من عام 2021، ويمكن القول بأنه لم يصل السودانيون إلى هذه اللحظة الدموية من فراغ، فالصراع على السلطة بين البرهان وحميدتي تحديداً كان قد بدأ منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، في أبريل/ نيسان من عام 2019، وبالتحديد يوم 11 من شهر نيسان عندما تم إختيار البرهان ليصبح رئيساً لمجلس السيادة، وأعلن يومها حميدتي رفضه لتشكيل مجلس السيادة من العسكريين، حيث كان حميدتي برتبة فريق، وهو ليس عسكرياً من الأساس، بل كان تاجراً للإبل، ثم راح يؤسس ميليشيات الجنجويد خلال الصراع في دارفور، ثم بعدها تحولت هذه الميليشيات إلى قوات الدعم السريع، بعد أن أسبغ البشير على حميدتي رُتبَته العسكرية والتي كانت قد بدأت من العميد حتى وصل إلى رتبة الفريق وفي 13 نيسان من عام 2019 تمت ترقية حميدتي إلى رتبة فريق أول وتوليه لمنصب النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، وهكذا أصبح البرهان الرجل الأول، وحميدتي الرجل الثاني في السودان، وبدأت يومها العلاقة بين الرجلين البرهان وحميدتي جيدة لأن كلاهما عسكري في مواجهة المعسكر المدني الساعي إلى فرض نظام ديمقراطي، وإخراج الجيش من المعادلة السياسية، ومنذ اللحظة الأولى لبداية المرحلة الإنتقالية في السودان، كانت قضية دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني مسألة شائكة، لا يبدو أنها ستنتهي بطريقة سلمية أو منظمة، فدمج تلك القوات أو الميليشيات بمعنى أدق في الإطار العسكري الرسمي سيحرم حميدتي من ولائها بطبيعة الحال، بل كانت هناك أصوات تنادي بأن يحدث العكس، بمعنى أن تستوعب قوات الدعم السريع الجيش السوداني لتصبح تلك القوات الجيش الرسمي، وعندما إقترب موعد تسليم السلطة إلى المدنيين، قام العسكر بقيادة البرهان بأنقلاب أكتوبر / تشرين أول في عام 2021 ، والذي قد جعل الأمور مرة أخرى تصل إلى المواجهة بين المعسكرين المدني والعسكري، ما يعني أن البرهان وحميدتي في مركب واحد، لكن حقيقة الأمر تقول بأنه منذ إنقلاب عام 2021، أصبح البرهان وحميدتي يتصارعان على السلطة، حيث أختلف الرجلان على الإتجاه الذي تسير فيه البلاد وحتى على مقترح الإنتقال إلى حكم مدني، ولكن وفقاً للجدول الزمني المتـفق عليه. والذي من المفروض أن يتم الإعلان عن رئيس وزراء جديد ومناصب أخرى في11 من نيسان 2023، إلا أن الموعد النهائي قد إنقضى بعد أن كان قد فشل الطرفان في التوقيع على الأتفاق الإطاري الذي تم الإعلان عنه في الخامس من ديسمبر / تشرين ثاني الماضي 2022 مرتين، بسبب الخلافات حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وإن كانت القضية لآ تتعلق فقط بدمج قوات الدعم السريع في الجيش بطبيعة الحال، لكنها أيضا أصبحت مرتبطة بالصراع على السلطة بين البرهان وحميدتي، مما جعل الرأي سواء المحلي أو العربي أو الإقليمي أوحتى العالمي يطرح مثل هذه الأسئلة : ترى أي منهما أقرب لحسم الأمر لصالحه ..؟ وما هو مستقبل هذا الصراع العسكري ..؟ وهل ينتهي سريعاً أم يتحول إلى صراع طويل الأجل ..؟وهل تنتهي حرب الشوارع في السودان سريعاً ..؟ بعد أن كان قد أدى الإقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى سقوط أكثر من 600 قتيلا وإصابة أكثر من 5000 جريح و 70% من مستشفيات الخرطوم غير عاملة وسط نقص شديد في المستلزمات الطبيه وسيارات الأسعاف ووسط ضربات جوية وإشتباكات بين الأحياء وحرب شوارع ومع مخاوف من إمتداد الصراع إلى خارج العاصمة الخرطوم وجميع أنحاء السودان، في وقت الطرفان المتقاتلان لا يعطيان إنطباعاً بأنهما يريدان وساطة من أجل سلام بينهما على الفور، وحتى وإن كان الجانبين قد إتفقا على هدنة إنسانية لمدة ثلاث ساعات إلا أنها فشلت، لكن القتال إستمر لغاية الأن برغم وعود بالتهدئة منذ السبت الأسود ما يُنذر بتمزيق السودان بين فصيلين عسكريين تَقَاسما السلطة خلال فترة إنتقالية سياسية صعبة، مما قد جعل صورة قاتمة بطبيعة الحال بشأن الإقتتال المشتعل ولا يبدو أن هناك نهاية حاسمة قريبة خاصة وأن كل طرف يطمح أن تكون لصالحه، في ظل تصريحات كل من طرفي الصراع بأنه سيحقق مكاسب على الأرض وهناك ولهذا اليوم بعض البلدان العربية تتحرك منها دولة الإمارات العربية المتحدة بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد من أجل وقف إطلاق النار والجلوس على طاولة حوار من أجل السودان والشعب السوداني، لكن دون الوصول إلى نتائج لحد الآن، ويبقى القول بأن إستمرار العنف سيؤدي إلى زعزعة إستقرار منطقة مضطربة في الأصل، وأن يلعب دوراً في التنافس على النفوذ هناك بين روسيا والولايات المتحدة وقوى أخرى في المنطقة تتودد إلى جهات فاعلة مختلفة في السودان، وهناك من يُعتبر إندلاع القتال في السودان هو ” أسوأ السيناريوهات ” لأنه من غير المرجح أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً على البرهان، في ظل علاقات خصمه حميدتي مع روسيا، هذا وتقدر قوات الدعم السريع والتي تبلغ أعدادها ب 100 ألف مقاتل وهو أمر مبالغ فيه ويمكن العدد لا يزيد عن 45 ألفاً فقط، بسبب وجود نظام داخلي للإجازات، أي أن نصف القوات في الخدمة والنصف الآخر خارجها كما أن أساس قوات الدعم السريع قبلي وعشائري ومدعمة من نظام الرئيس السابق البشير، لذا لا توجد أيضاً مقارنة في مجال السلاح بينها وبين الجيش السوداني، خاصة وأن الجيش السوداني يمتلك معدات عسكرية من طائرات ومدافع يتفوق بها على قوات حميدتي، ولكنه لن يستخدمها بشكل مفرط، حفاظاً على الأمن القومي والمدني، والتزاماً بالإتفاقيات الدولية وقواعد الإشتباكات، حتى وإن كانت قوات الدعم السريع ليست ميليشيات عادية، بل هي موازية في قوتها للجيش السوداني، ولديها تسليح حديث، كما أن قائدها حميدتي يمتلك علاقات دولية واسعة بمؤسسات عسكرية عالمية وخاصةروسية، وكانت قد شاركت قواته في بعض الحروب المتعددة كحرب اليمن بدعم خليجي، بالإضافة إلى سيطرتها على مناجم الذهب والأستثمارات الداخلية والخارجية، فالقدرات بين الطرفين قد تكون متقاربة إلى حد كبير، لكن يبقى التفوق للجيش وقد يحسم الأمر من خلال الطائرات الحربية، والتي ستكون نقطة الفصل على أرض المعركة، وأضيف، كمراقب، حتى وإن كانت هذه الحرب ستطول ولن تكون خاطفة، لأن كل طرف سيحاول حسم المعركة لصالحه وفي العاصمة الخرطوم، وإذا إستحالت الأمور على حميدتي فإن سيناريو إنساحبه إلى دارفور معقل قوات الدعم السريع يبقى أمراً وارداً خاصة إذا حُوصر من قِبل الجيش، وحتى لو أنسحب إلى دارفور فإنه لن يجد الدعم الكافي بالنظر إلى إعلان العديد من القبائل العربية دعمَها للجيش السوداني، لذا تبقى من مصلحة حميدتي في المعركة هي إنهائها في العاصمة الخرطوم لكن يبقى من الصعب في ظل تخبط قواته بالعاصمة الخرطوم لذا يوجد هناك ثلاثة سيناريوهات : الأول إنتصار الجيش السوداني والقضاء على قوات الدعم السريع، ثم إنتشار قوات الجيش في كافة المناطق والأحياء والشوارع، وعودة الأمن القومي السوداني والحياة لطبيعتها، ولكن بشكل جديد، والثاني وقف إطلاق النار بعد تدخل الوساطات من الدول الشقيقة والصديقة وبالتالي تبدأ عملية التفاوض حول النقاط الأساسية، بالإضافة إلى المحاكمات العسكرية وانتهاءاً بدمج قوات الدعم السريع المتبقية مع قوات الجيش السوداني، أما الثالث فهو وقف إطلاق النار وعودة الجميع للتسوية، ومن الممكن عدم وجود قوات الدعم السريع كطرف رئيسي في العملية التفاوضية، إضافة إلى دخول طرف آخر من القوى السياسية الأخرى، مع تعديل المشروع السياسي، وذلك للذهاب لفترة إنتقالية جديدة بشكل ديمقراطي، وصولاً للأنتخابات الرئاسية، وسيظل التهديد الأبرز هو أن أنتهاء مخطط دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وميل قياداته لتفكيك هذه المنظومة بدلاً من إحتوائها، يعني على الأرجح تحول الدعم السريع إلى ميليشيا إقليمية متمردة، خاصةً في مناطق نفوذها غربي السودان، وهو ما يزيد من التهديدات المتعلقة بتماسك ووحدة البلاد، التي تعاني أصلاً من تداعيات انحسار ظل الدولة مقابل تعميق الولايات الجهوية والقبلية والعرقية، وهكذا يكون قد خرج الصراع المكتوم على السلطة في السودان بين الرجلين القويين اللواء عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو للعلن وهو ما وضع السودان الشقيق على المحك بسبب الأوراق التي يمتلكها كل منهما، إضافة إلى المزيد من مؤشرات التصعيد، وسط محاولات الوساطة بين الجانبين، لكن الصراع لا يمكن إيقافه، يحدث هذ بعد أن كان قد حافظ البرهان وحميدتي، على تحالف غير مستقر منذ إنقلاب أكتوبر / تشرين أول لعام 2021 بقيادة البرهان، والذي شهد وضع الجيش محل الحكومة الإنتقالية ألتي قادها المدنيون في السودان، كما أنه أيضا لكلا الرجلين مصادر مختلفة للسلطة والثروة، بالإضافة إلى رعاة دوليين مختلفين، فالبرهان بصفته قائداً للقوات المسلحة السودانية، يسيطر على مجمع صناعي عسكري كبير، كما يعد الرجل المُفضَّل لدى الجارة مصر وحتى الشخصيات الإسلامية التي تولت السلطة في فترة الرئيس السابق عمر البشير، الذي أُطيحَ من السلطة في عام 2019، أما حميدتي الذي كان في السابق على رأس ميليشيات الجنجويد فسمعته كبيرة في دارفور والمعروفة حالياً بـقوات الدعم السريع على مناجم الذهب في المنطقة المضطربة وله مؤيدون مؤثرون في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، هذا وكان قد التقى كل من البرهان وحميدتي بأعضاء رفيعي المستوى من الحكومات الأمريكية والروسية والإسرائيلية، كما شوهد حميدتي في العاصمة الروسية موسكو عندما غزت روسيا أوكرانيا، وفي غضون ذلك، أصر الوسطاء الدوليين بين الممثلين المدنيين والعسكريين على توقيع الأطراف المعنية المختلفة على إتفاق نهائي بحلول منتصف نيسان على أبعد تقدير، حيث تضمن الأتفاق الإطاري دستوراً جديداً يكون الأساس لحكومة مدنية جديدة، ويعتقد أن هذه الصفقة تصب في صالح حميدتي، وهو أحد الأسباب التي جعلت رئيس قوات الدعم السريع يدعمها علناً، وتدعو مسودة الأتفاقية النهائية إلى دمج قوات الدعم السريع داخل القوات المسلحة السودانية، بالإضافة إلى حركات التمرد السابقة، هذا واختُتِمَت ورشة عمل بين ممثلي المدنيين والعسكريين وقوات الدعم السريع في 30 مارس / آذار دون التوصل إلى أي توصيات نهائية، مع إشتداد الخلافات حول دمج القوات شبه العسكرية وأنسحاب وفد الجيش فجأة من الجلسة الختامية، وتواصل لجان المقاومة، التي كانت في قلب الثورة المستمرة في السودان، معارضة الصفقة، لذا قيل بأن هذه الصفقة لن تحقق أي إستقرار سياسي أو أمني، خاصة في ظل وجود العديد من القضايا ألتي لا تزال دون حل، فمن غير المرجح أن يتم التوصل إلى إتفاق بحلول منتصف نيسان، هكذا كانت الأوضاع تسير في السودان إلا أن إستيقظ السودانين على بوادر توتر مختلفة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقد أدى هذا الوضع إلى قلق الكثيرين من وقوع مواجهات مباشرة بين مجموعتيّ المقاتلين، هذا وكانت قد شوهدت عمليات إعادة إنتشار مكثفة للقوات المسلحة النظامية وإجراءات أمنية جديدة بما في ذلك بناء أسوار عالية جديدة حول مقر الجيش في الخرطوم، وأُغلِقَت الجسور وفُتِحَت من قِبَلِ الجيش دون إبداء أي سبب واضح، هذا وتعمل نقاط تفتيش أمنية مشددة في أنحاء العاصمة السودانية وتكثيف عمليات تفتيش المسافرين الذين يصلون إلى مطار الخرطوم، كما كان قد إلتقى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان بوزير الخارجية الإسرائيلي ( إيلي كوهين ) في الخرطوم، لبحث تعزيز آفاق التعاون المشترك لاسيما في المجالات الأمنية والعسكرية، كما كثَّف كبار المسؤولين من كل من الجيش وقوات الدعم السريع خطابهم العلني، حيث ظل يتسابق كل من حميدتي والبرهان للحصول على الدعم العربي والإقليمي والدولي، وعندما قام البرهان بزيارة تشاد قام حميدتي بزيارة نفس البلد، وفي أعقاب زلزال شباط 2023 المدمرة التي ضربت تركيا وسوريا، أرسلت القوات المسلحة السودانية طائرة مساعدات إنسانية إلى تركيا، فبعد أسبوع قامت قوات الدعم السريع بإرسال طائرة منفصلة خاصة بها، ومع إستمرار تصاعد التنافس بين الرجلين حيث فقد دعا البرهان إلى دمج قوات الدعم السريع في الجيش، فكان رد حميدتي بتحدٍّ ناسف لأنقلاب تشرين أول 2021 الذي ساعد فيه مع البرهان، هذا وكانت قدأشعلت قضية إعادة دمج قوات الدعم السريع الموقف، حيث كان قد صرح قائد الجيش وعضو مجلس السيادة شمس الدين كباشي، صراحةً إنه لا سبيل للسودان ليكون له جيشان، وإنه على هذا النحو، يجب ضم قوات الدعم السريع إلى صفوف الجيش، فكان الرد القوي لحميدتي، إلى أن الوقت قد حان لكي يسلم الجيش السلطة إلى الشعب السوداني، وحتى وأن المحادثات لا تزال جارية إلا أن الجانبان يختلفان حول كيفية دمج قوات الدعم السريع، والإطار الزمني لذلك وغيرها من الجوانب الفنية، ومن مجالات الخلاف الأخرى نفوذ رجال الدين الإسلاميين في الجيش منذ عهد البشير، والتي يصر حميدتي على معالجة هذه القضية، بينما تنكر ممثلو الجيش نفوذ الإسلاميين داخل القوات المسلحة السودانية، ويبقى البرهان متحمسا لتشكيل ما يسميه المجلس الأعلى للجيش وهو مايعني فعلياً عزل حميدتي من منصبه كنائب لرئيس البلاد ويقال اليوم بأن التحالف المدني وحميدتي يدعمان الأتفاق الإطاري ويريدان إتفاقاً نهائياً يتم التوصل إليه بحلول منتصف شهر نيسان، واتهم الجيش بإفساد الأتفاق ودعم تحالف يضم حركتي معارضة هما حركة تحرير السودان بقيادة حاكم دارفور ميني ميناوي، وحركة العدل والمساواة برئاسة وزير المالية الحالي جبريل إبراهيم، ويبقى يهدف هذا الأتفاق النهائي إلى إنهاء نظام الانقلاب العسكري، وأنسحاب الجيش من السياسة، وتمكين السيطرة المدنية على السلطتين التنفيذية والتشريعية في ظل كيان مدني ذي سيادة، وتبقى هناك قضايا أخرى مهمة لم تُعالَج بشكل صحيح، بما في ذلك إصلاح الجيش، والعدالة الإنتقالية، وتفكيك النظام السابق، ومراجعة إتفاقية جوبا للسلام مع الحركات المتمردة، والأزمة في شرق السودان، حيث سيطرت الجماعات المحلية على موانئ البلاد وتطالب بمزيد من الحكم الذاتي، ويُستكمَل الصراع الداخلي على السلطة ويتصاعد من خلال منافسة القوى العظمى بين روسيا والغرب، فضلاً عن مشاركة بعض دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، مع وجود مرتزقة مجموعة فاغنر في السودان وكذلك جمهورية إفريقيا الوسطى المجاورة، بينما يُصدَّر الذهب والموارد الأخرى إلى روسيا لمساعدة جهود موسكو الحربية في أوكرانيا، وتبقى تقف قوات الدعم السريع إلى جانب روسيا في السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، بينما الجيش يدعم الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وكانت الدول الغربية قد وضعت طرد المرتزقة الروس وشركات الذهب من السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا على رأس قائمة أولوياتها السياسية، وكانت أكثر إهتماماً بذلك من العملية السياسية في السودان، وكانت المخابرات العسكرية السودانية قد أستدعت حوالي 60 روسياً واتهمتهم بتهريب الذهب من ولاية نهر النيل، وكانت شركة الصلج، التي تولت في عام 2021 العمليات السودانية لشركة مروي غولد ألتي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات دولية قد أستُهدفت كجزء من المحاولات الغربية لإحتواء الإستثمارات الروسية، وكان قد ظهر عنصر آخر في الصراع بين البرهان وحميدتي عندما وافق الجيش السوداني على صفقة مع ثماني حركات دارفورية كجزء من المفاوضات التي رعتها قطر، ومن بين قيادات هذه الجماعات موسى هلال، زعيم الجنجويد السابق الذي أعتقلت خصمه اللدود حميدتي في عام 2017 خلال أيام البشير، وصادر يومها البشير مناجم ذهب هلال في شمال دارفور وسلمها لقائد قوات الدعم السريع، وكان قد أُطلق سراح هلال ممثل حميدتي بإرتكاب إنتهتكات لحقوق الإنسان في دارفور، وقيل يومها بأن إطلاق سراح زعيم قبيلة حميدتي كان خطوة من قبل الجيش للضغط عليه، وجاءت ساعة الحسم طبعا وأقصد هنا لحظة الحرب حيث إستيقظ العالم بأسره على إشتباكات عنيفة مسلّحة، ومواجهات عسكرية خطيرة وتبادل لإطلاق النار، والإستيلاء على مواقع حيوية في العاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع السودانية، في مشهد مؤسف في البلد العربي الشقيق ينذر بحرب أهلية لا قدر الله وكان قد تفاجأ الكثير من تلك المشاهد الكارثية لأنهم لم يكونوا يتوقّعونها إلا أن ما يحدث على الأرض من إضطرابات غير مسبوقة في الحقيقة كانت لها مقدمات وإرهاصات خلال الآونة الأخيرة أوحت بحدوثها، وإن لم يكن معروفًا متى يحدث، وفي البداية لا بد من تعريف طرفي الصراع الحالي فالجيش السوداني هو القوات المسلحة الرسمية للبلاد، والمنوط بها الدفاع عن وحدة وسلامة أراضيها، وصدّ العدوان الخارجي، أما قوات الدعم السريع، فترجع أصولها إلى ميليشيات الجنجويد، وهي ميليشيات كانت تقاتل باسم الحكومة السودانية خلال حرب دارفور في عام 2003، قبل أن تتشكل رسميًّا في عام 2013، حيث تمت إعادة هيكلتها لتصبح تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني. بهدف إعادة نشاط ميليشيات الجنجويد لمواجهة الجماعات المتمرّدة في إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق، ويقود قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي٠ وهو نائب رئيس مجلس السيادة السوداني برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان وهو الجهة المنوط بها الإشراف على المرحلة الإنتقالية في البلد العربي، وكان قد بدأ الصراع الذي نشهده الآن يظهر للعلن للمرة الأولى حينما صرّح قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الملقب حميدتي بأنه اكتشف منذ اليوم الأول أن قرارات قائد الجيش عام 2021، التي أقصى فيها الحكومة المدنية، أتخذت لتكون بوابة لعودة نظام المؤتمر الوطني المعزول، والمقصود به النظام السياسي الذي كان يحكم السودان بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، وسرعان ما احتدمت الخلافات والتوترات في أعقاب التوقيع على الإتفاق الإطاري المؤسس للفترة المقبلة بين المكون العسكري الذي يضمّ قوات الجيش وقوات الدعم السريع الذي كان قد أقرّ بخروج الجيش من السياسة وتسليم السلطة للمدنيين، وتضمّن الإتفاق بنودًا بشأن دمج قوات الدعم السريع في الجيش، كما طالب الجيش بأن تكون هناك قيادة واحدة بعد الدمج، وجعل شركات قوات الدعم السريع تابعة لوزارة المالية، والإجراءات الحكومية المعروفة، كما أشترط أن يكون هو من يحدد تحركات وإنتشار القوات وفق عملية الدمج، وبعد ذلك راح حميدتي يتهم قيادات في الجيش بالتخطيط للبقاء في الحكم، وبأنها لا تريد مغادرة السلطة، وراح يعلن تأييده لفكرة الدمج، ولكنه يشترط أن يتم وفق جداول زمنية متفق عليها، كما أشترطت قوات الدعم السريع أيضًا مساواة ضباطها في الإمتيازات بنظرائهم في الجيش، وطالبت بالتزام القوات المسلحة الجيش بالدستور السوداني الذي سيتم إقراره، وهكذا قد إنتقل الصراع بين طرفي الأزمة من منبر التصريحات إلى الأرض، في أعقاب حشد قوات الدعم السريع لأفرادها ومركباتها في منطقة مروي شمال السودان، لمجابهة حشد لقوات الجيش، وهو ما أستنكره الجيش الذي أعتبرها تحركات لم تكن بعلم وموافقة قيادة القوات المسلحة، أو التنسيق معها، وتسارعت وتيرة الأحداث، حيث أشتبك الطرفان في صراعات عسكرية، وأندلعت المواجهات في العاصمة السودانية الخرطوم، ومناطق أخرى، ووفقًا للمؤسسة العسكرية السودانية فقد إندلعت الإشتباكات بعد أن حاولت قوات الدعم السريع مهاجمة قواتها في الجزء الجنوبي من العاصمة، فيما تتدعي قوات الدعم السريع بأن قوات الجيش هاجمت قواتها في أرض المعسكرات ب( سوبا ) في العاصمة الخرطوم، بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، وهو ما دفعها إلى الردّ بالهجوم على المعتدين، وهكذا أنهالت الإشتباكات والأعتداءات بين الطرفين حيث إدعت قوات الدعم السريع بأنها سيطرت على المطارات والمواقع الرئيسية في البلاد، فيما نفى الجيش وصرح بأن طائراته تقصف قواعد قوات الدعم السريع، مما دفع ببعض الأطراف المحلية والخارجية تطالب طرفَي الصراع بضبط النفس، والعودة إلى طاولة المفاوضات، وسط مخاوف من إحتدام الصراع وتحوله إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر .
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات