عن التهويل بـ«اليمين المتطرف»: هل ستزحف القمصان السود تالياً على باريس؟

ندى حطيط  …

 

إذا رصدت التعبير الأكثر تردداً على شاشات التلفزيون في أوروبا طوال الأسابيع القليلة الماضية فسيكون حتماً «اليمين المتطرّف»، وذلك في إطار بورصة التوقعات التي استبقت الانتخابات الأوروبيّة، ومن ثم إعلان نتائجها، ولا شكّ أن هذا الوصف سيستمر رهن التداول لبعض الوقت مع قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل البرلمان الحالي وإجراء انتخابات عامة مبكرة تجري جولتها الأولى في 30 من الشهر الجاري، والتي يبدو أن أحزاب اليمين المتطرّف ستفوز بأغلبيّة معتبرة فيها.
بالطبع، لا يحتاج المرء لأن يكون منجماً يتأمل حركة الكواكب كي يتنبأ أن الأحزاب اليمينية كانت ستحظى بحصة مقاعد معتبرة في برلمان الاتحاد الأوروبي، فهذه الأحزاب بصيغها المتباينة جغرافياً في اتجاه صعود منذ ما يقرب العقد من الزمان، وتكررت نجاحاتها في الوصول إلى السلطة أو قيادة المعارضة في غير ما بلد أوروبيّ، من إيطاليا والتشيك وهنغاريا، إلى فرنسا والنمسا وهولندا.
كما أن استطلاعات الرأي تقاطعت منذ أسابيع طويلة قبل الانتخابات على أن مزيداً من الأوروبيين قد أشاحوا بوجوههم تجاه اليمين، لدرجة أن بعض وسائل الإعلام شرعت بالتخويف من «زحف اليمين المتطرّف»، وادعت أن الجمهور في أنحاء القارة – لا سيما في فرنسا – وكأنه يعيش أجواء أوروبا ثلاثينيات القرن العشرين، عندما صعد الحزب النازيّ إلى السلطة في ألمانيا، وقبلها في إيطاليا عشرينيات القرن العشرين مع مسيرة القمصان السود إلى روما التي خطفت السلطة للفاشيست.

من يخاف من «يمين متطرف»؟

بالطبع، فإن هياكل الحكم والسلطة التي سمح بقيامها الأمريكيون في أوروبا بعد انتصارهم في الحرب العالميّة الثانية لا تتيح بأي حال الفرصة لنشوء ديكتاتوريّات عسكريّة قادرة على الهيمنة على دول أوروبية كبرى، ناهيك عن مجمل القارة، وحتى في تلك الدّول الصغيرة التي قد ينتهي (اليمين المتطرّف) فيها إلى السلطة، فإنه يظل متطرفاً داخل حدود وأطر مسموح بها، محكوماً بسلسلة من القيود تبدأ من عضوية الاتحاد الأوروبي، ولا تنتهي بالعملية الانتخابيّة، التي تضمن تقلّب الجاثمين على الكراسي مع كل نصف عقد تقريباً. فلماذا إذن هذا التهويل من يمين أوروبيّ متطرّف، وهل لدى الجمهور ما قد يخشاه إن تولى هؤلاء السلطة فعلاً؟
للإجابة على هذا السؤال، ربما ينبغي أن نبدأ من المناخ العام الذي أنتج هذه الموجة الحالية من التصويت يميناً.
لقد كان للأزمة المالية العالمية عام 2008 مفعول الصدمة للجمهور الأوروبيّ، بعد عقدين من العيش في وهم نهاية التاريخ، والانتصار النهائي للرأسمالية والديمقراطيّة على البديل الاشتراكي، ففقدت النخب الحاكمة الوسطيّة الليبراليّة الهوى بشكل حاسم ثقة المواطنين العاديين، سواء ما كان منها في السلطة أو في المعارضة، يمين الوسط كما يساره، إضافة إلى الأجهزة المحسوبة عليهم: البيروقراط، والخبراء المستشارون، والإعلاميون.
لقد لجأت هذه النخب الفاسدة إلى المال العام لإنقاذ البنوك وشركات الاستثمار والتداول المالي من الإفلاس، فمنحت اللصوص وعديمي الكفاءة الذين تسببوا بكارثة عالمية الأبعاد مليارات من أموال دافعي الضرائب دون مقابل سوى ضمان ديمومة النظام المصرفي القائم، وفرضت في سعيها لتمويل هذه المنح السخية أسوأ منظومة تقشّف اجتماعيّ شهدتها القارة منذ الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، ما تسبب بتوسع دائرة الفقر، وسقوط كثيرين فيها ممن كانوا يعدون وقتاً ما طبقة وسطى، وانخفض مستوى أجور الجيل الحالي عن مستوى دخل آبائهم، واضطر شبان كثيرون لترك أحلام شراء منزل وتأسيس عائلة وعادوا للإقامة مع أهاليهم إلى أن يجعل الله أمراً كان مفعولا، فيما توقف الاستثمار بشكل كليّ تقريباً في المشاريع العامة وخدمات البنية التحتية، وشرعت مقدرات (الدّولة) وما تبقى من مؤسساتها الوطنية لذئاب القطاع الخاص كي يقتطعوا منها ما لذّ لهم من لحمها، وطاب. وبينما لم يجد كثيرون ممن فقدوا وظائفهم في مرحلة الأزمة المالية العالمية فرص توظيف جديدة وظلوا عاطلين عن العمل، كان التوجه الغربيّ لفتح الأبواب للمهاجرين – هجرة قانونية أو غير ذلك – من مناطق الصراعات التي مولتها أوروبا أو شاركت فيها: لبنان وسوريا وليبيا والعراق وأفغانستان ووسط أفريقيا وغيرها، بما يتضمنه ذلك من تكاليف استيعابهم وغلبتهم على الوظائف الأدنى، ناهيك عن التباين الحاد بما خصّ الثقافات. في ظل هذه الأجواء القاتمة، جاءت تالياً همروجة كوفيد-19 وبعدها حرب أوكرانيا، التي انسحبت ذيولها على كل بيت أوروبي: تردياً في القيمة الحقيقية للأجور، وتضخماً ذا أبعاد قياسية غير مسبوقة من الحرب العالمية الثانية، وارتفاعاً صاروخياً في تكاليف المعيشة اليومية بما في ذلك فواتير الطاقة والخدمات الأساسية.

أين كانت الأحزاب الرئيسة آنذاك؟

لقد أمضت أحزاب الوسط الرئيسية الحاكمة هذه السنوات الأخيرة في التغطية على الانقسام الطبقي المتزايد بين من يملكون ومن لا يملكون، ونشر ثقافة الهويات الجندرية الملتبسة وحرية تعاطي بعض المواد المخدرة، وفق أجندة الاتحاد الأوروبي، مع تدبيج الوعود بخفض الهجرة. كل ذلك، دفع الكتل الأفقر في المجتمعات الأوروبيّة إلى الابتعاد عن هياكل الأحزاب الرئيسة الوسطية القائمة (سواء يمين الوسط أو يساره)، ومنح أصواتهم احتجاجياً لفئة جديدة من السياسيين الشعبويين أبدعت في كشف عورات السلطات القائمة وحملت وعوداً للمقهورين بغد أفضل: استعادة لأدوار دولة الرفاه، وإنهاء لهيمنة النخب الليبرالية الفاسدة مالياً وأخلاقياً، وإغلاقاً محكماً لبوابة الهجرة.
النخب الحاكمة التي كانت تآمرت لدفن اليسار الراديكالي لمصلحة يسار مهذّب معنيّ بقضايا الهويّات، لجأت إلى تعميم صفة (يمين متطرف) على كل من يناهض أجندتها ربطاً بالسيرة السيئة التي تقرر وضعها لشموليات القرن الماضي، لكن تأثير ذلك على الجمهور يبدو إلى الآن ضعيفاً ، لأن المصطلح وكأنه اليوم وقد فقد كل معنى، ويطلق على عواهنه دون تدقيق، فبعض الأحزاب المصنفة يميناً متطرفاً – قد تكون مناهضة لبرامج السلطة دون أن تكون بالضرورة نازيّة الهوى بمفهوم القرن العشرين، وبعضها انخرط في السلطة فعلاً وقدّم أداء لا يقل في وفائه للمنظومة القائمة في أوروبا عن أي حزب وسطي أو يساريّ. كما أن هذه الأحزاب تكاد لا تتفق في ما بينها على قاسم مشترك، اللهم سوى العداء للمهاجرين، وهي فشلت حتى الآن في بناء تكتل صلد في البرلمان الأوروبي، بسبب الخلافات بين اليمين المتطرف (الحاكم) في إيطاليا – حزب رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني – واليمين المتطرف (المعارض) في فرنسا – حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان، واليمين المتطرف في ألمانيا – حزب البديل.

هل يمكن أن يعيد يمين اليوم إنتاج كوابيس الماضي؟

لا يمكن بالطبع منح شهادة براءة ذمّة تامة للأحزاب اليمينية المتطرفة الجديدة، وكثير منها لديه ارتباطات وإن واهية بجهات ذات ماضٍ أسود، مثلاً أخوة إيطاليا الذي يقود ائتلاف اليمين الحاكم في روما يعد امتداداً رمزياً معاصراً ووريثاً للحركة الفاشيستية في إيطاليا القرن العشرين، وقد يسهل توظيف مشاعر غضب الجمهور من جرائم النخبة وفسادها في مسارات غير محمودة.
لكن حتى الآن، ووفق معطيات اللحظة الراهنة، فإن اليمين المتطرف وكأنه المنصة الوحيدة المتوفرة لفقراء أوروبا البيضاء كي يعبروا عن مصالحهم، وهذا نتاج طبيعي تماماً لفشل مشروع الوسطيين الليبراليين في الحكم وصناعة السياسة خلال العشرين عاماً الأخيرة، لكن ذلك مهما تعملق فلن يصل إلى مستوى زحف قمصان سود جديد على باريس هذه المرة، وسيظل رهين السقوف التي رسمها الراعي الأمريكي للقارة العجوز.

 إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

قد يعجبك ايضا