عبد الهادي باشا … الفارس الذي ترجل ليخرج علينا فرسان الكرتون

.بقلم العميد المتقاعد هاشم المجالي…………

هذه المقاله إلى من جعلوا الوطن ومؤسساته علكة بافواههم يعلكونها عند توليهم المناصب ويبصقونها بعد أن يستبعدوا منها ، إليكم لكي تتعلموا يا من هاجمتم الوطن بعدما حلبتموه انتم واولادكم وانسباءكم واردتم أن يبقى الوطن بقرة حلوب في مزارعكم .
………………………

رحمك الله يا أبا سهل، فما عرفتك إلا رجلًا من أولئك القلائل الذين إذا حضروا غطّوا على كل حاضر، وإذا غابوا بقيت ذكراهم أندى من المطر، وأبهى من نور الفجر، وأبقى من الحجارة على صدر الأرض. كنتَ رجلًا لا تملكه الأهواء، ولا تأسره الأطماع، ولا يُغريه زخرف الدنيا وزينتها؛ لأنك كنت أكبر منها جميعًا، وأعظم من أن تُقاس بمقياسها الضيق.

ما زلتُ أذكر وجهك الوضيء، وقد علتْه مسحة الوقار، وكأن على كتفيك أثقال أمة بأسرها، لا أثقال رجل بمفرده. كنتَ إذا تحدثتَ أرهفت الأسماع، وإذا سكتَّ عمّ الصمتُ في المجلس، فأنت صاحب الكلمة التي تخرج مغموسة بالصدق، وصاحب الموقف الذي يُشبه صخرةً لا تتزحزح في وجه الرياح.

لقد كنتَ للدولة حصنًا من حصونها، لا تغضب لنفسك ولكنك تغضب لها، ولا تدافع عن جاهك أو اسمك، ولكنك تدافع عن حياض الوطن وكرامة قيادته. وكم كنتَ عظيماً في حلمك، تصون لسانك عن فُحش القول، حتى مع من أساؤوا إليك، فتكون صديقًا لخصومك، ومؤدبًا مع من لم يعرفوا للأدب سبيلًا. وهنا تكمن العظمة: أن تملك القدرة على البطش، ثم تختار طريق السماحة.

وكم أدهشني جوابك يوم عاتبتك على تسامحك مع من أسرفوا في الإساءة، فقلتَ لي برباطة جأش: «أنا جزء من هذا النظام، فكيف أهاجم نفسي وأتخلى عنها؟ وانا تربيت على الاخلاق والفضيلة ولن اخرج عليها » فما أعظمها من كلمات، لو وعاها كثيرون لعرفوا أن خدمة الوطن ليست مغانم يتنافس عليها الطامعون، وإنما هي تكاليف وأمانات يضيق بها صدر من لم يُخلق لها.

ثم كان موقفك وأنت في واشنطن، تراقب بعين الخبير ما يُدبَّر في الخفاء، فترفع قلمك إلى مليكك الراحل الحسين، لتكتب ما يراه قلبك قبل عينك: أن الأردن أولى بجهود سفارته وبعثته من أن تكون رهينة لقضية لا يُنسّق أصحابها ولا يراعون حقه. وما أجملّها من نصيحة خرجت من قلب نقي، فكان لها الأثر في يقظة الملك واستعادة البوصلة إلى حيث يجب أن تكون.

ولم تكن الانتخابات عنك ببعيدة، يوم اجتمع الخصوم وتكالبت عليك بعض أجهزة الدولة لتقصيك، فإذا بك تقبل التحدي بوجهٍ باسم، وقلبٍ ثابت، وتخوض المعترك كما يخوض الفارس ميدان الوغى، فتخرج منه منتصرًا، بينما يسقط من أرادوا لك السقوط. هناك تجلّت حقيقتك: أن الشعب يعرف معادن الرجال، وأن التاريخ لا يكتب إلا للثابتين، ولم تخرج على البود كاست أو وسائل الإعلام لتكيل الاتهامات أو تضعف أجهزة الدولة التي ساندت غيرك .

لقد رحلتَ يا عبد الهادي باشا، وتركتَ في قلوبنا فراغًا لا يملؤه سواك. رحلتَ كما يرحل السند عن أهله، فيبقى البيت قائمًا، ولكن سقفه يميل، وجدرانه تئنّ. رحلتَ وتركْتَ لنا إرثًا من الوفاء والعزيمة، وسيرةً هي أنصع من البياض، وأبهى من النهار، وأبقى من الأعمار.

سلامٌ عليك يوم ولدتَ، ويوم عملتَ، ويوم رحلتَ، ويوم يبعثك الله مع الصادقين المخلصين.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا