عائلة “نون”: قصةُ حرفٍ… وقصّةُ حياة!

عدنان عبدالله الجنيد  ….

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ نۤ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾
— سورة القلم

في لبنان، حيثُ تتشابكُ الحكاياتُ كما تتشابكُ الأغصانُ على جبال الأرز، وتختلطُ الأسماءُ بالعراقة والرموز، تلوحُ عائلةٌ بديعةُ الاسمِ، فريدةُ الرسمِ، عائلةٌ لم تحتجْ إلى لقبٍ طويلٍ ولا نسبٍ معقّدٍ لتُعرَف، بل اكتفت بحرفٍ واحدٍ… فكانت عائلة “نون”!
حرفٌ واحدٌ، لكنه كالمحيطِ في عمقه، وكالأرضِ في ثباتها.
إنّه نون، الحرفُ الذي أقسمَ اللهُ به في أوّل السورة، وجعلَه مفتاحًا للعلم، ورمزًا للمداد، وإشارةً إلى البحر الذي منه يُستخرجُ الحبرُ ويُسطَّرُ به البيانُ.
أصل الحكاية: حينَ صار الحرفُ نسبًا!
يتندّرُ البعضُ قائلين إنّ أجدادَ “نون” كانوا في عجلةٍ من أمرهم فقالوا:
“ولِمَ نطيلُ؟ نكتفي بحرفٍ واحدٍ، فهو كافٍ لتاريخٍ بأسره!”
لكنّ مَن يتأمّل يدرك أنّ الاسمَ ليس صدفة، بل رمزٌ لاختصارِ الوجود في نقطةٍ من النور، كما يجتمعُ الكونُ في نونِ القَدرِ والبيان.
ربّما كان الاسمُ في بدايته إشارةً إلى موضعٍ أو صفةٍ، وربّما إلى عالمٍ من العارفين الأوائل الذين رأوا في “النون” سرّ الكتابة والبقاء، فغدا الاسمُ هويةً حرفيةً لها جذورٌ في الأرض اللبنانية، وجناحٌ في سماء البلاغة.
ولئن كان غيرهم يحتاج إلى سطورٍ لتوقيع أوراقه، فإنّ عائلة نون تكتفي بنقطةٍ على السطر!

خفةُ الظلّ و”نكهة” النون:

هذه العائلة، كما كثيرٍ من العائلات اللبنانية الأصيلة، تحملُ في قلبها مزيجَ السهلِ والجبل، والكرمِ والظرف، والجدّ والمزاح.
يُروى أنّ إحدى السيّدات من آل “نون” زارت بلدةً أخرى، فسألها المضيف عن اسمها فقالت:
“نون.”
فأعاد السؤال متعجّبًا، فابتسمت وقالت بثقةٍ وذكاءٍ لبنانيٍّ خالص:
“نعم، نون! حرفٌ كامل، لا يحتاج إلى تفسيرٍ ولا ترجمة. نحن عائلة الحرف السريّ!”
ومنذ ذلك اليوم، صار اسمُها أسطورةً تُروى في المجالس اللبنانية كلّما ذكروا عائلة تعرفُ كيف تختصرُ المجدَ في حرف!

الجمال… والسرّ الكامن في “نون”:

ولأنّ الجمال في لبنان لا يُقاسُ بالمظاهر، بل بالحضور والذوق والروح، فإنّ بنات نون يُشبهن بلادهنّ: بين البحر والجبل، بين الزرقة والثلج، بين النور والندى.
جمالهنّ ليس في الوجوه فحسب، بل في ذكاء الكلمة، وسحر الضحكة، وأناقة الموقف، وذاك هو الجمال الذي لا يُشترى ولا يُقاس.

نون والبحر… الحوث والأرض:

في القرآن، “نون” هي رمز البحر، ومصدر الحبر، ومفتاح القلم.
وفي الحياة، عائلة نون هي رمز الأرض التي تُثمر فكراً وبهاءً وسلاماً.
وكما قال العلماء في تفسيرها: “نون: الحوت الذي عليه الأرضون.”
فسبحان من جعل الحوتَ في البحرِ حافظاً للأرضِ من الزوال، وجعل من نونٍ على البرّ عائلةً تحفظُ روحَ النبلِ من الزوال!
وكما للحوثِ في البحر فوائدُ لا تُحصى — يُوازنُ الماء، ويُنعشُ الحياة، ويُذكّرُنا بعظمة الخالق — كذلك لعائلة “نون” في الأرض فوائدُ لا تُعدّ: كرمٌ يحيي النفوس، حضورٌ يُبهجُ المجالس، وذكاءٌ يُعيدُ للأحرفِ معناها.

نون… سرُّ الحرفِ والعقلِ اللبنانيّ:
في عمقِ التأمل القرآنيّ، كانت “نون” مفتاحَ سرٍّ من أسرار الخلق؛ فالله جلّ شأنه أقسم بها حين قال: ﴿ نۤ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾،
وكأنّما يقول للبشرية: إنّ الوجود يبدأ من نقطةٍ، والنقطةُ تُنبت الحرف، والحرفُ يُنجب الفكر، والفكرُ يصوغُ الإنسان.
ومن هنا، بدت عائلة نون في لبنان وكأنّها امتدادٌ رمزيٌّ لذلك الحرف الأزليّ؛
عائلةٌ تحمل في جوهرها نزعة العلم والكتابة والتعبير، كما يحمل القلمُ في جوفه المدادَ الذي خُلق من البحر — من “نون” الأولى، من الحوت الذي يُوازنُ الأرض ويُمسكها برحمة الخالق.
وكما كان لبنان عبر تاريخه منارةَ الفكرِ العربيِّ وموئلَ الكلمةِ الحرة، فإنّ “نون” فيه ليست مجرد اسمٍ عائليٍّ، بل رمزٌ لفطرة الكتابة، ووميضُ الحبرِ الذي لا يجفّ، وروحُ التدوين التي تحفظ الذاكرة الوطنية.
فـ”نون” القرآنيةُ كانت بداية الوحي بالقلم، و”نون” اللبنانيةُ ما تزالُ تُحيي الكلمةَ بالقلب.
وبين الحرفين — القرآنيّ والإنسانيّ — يلتقي البحرُ بالأرض، والحوتُ بالحرف، والسرُّ بالنور.
الختام :
عائلة “نون”… ليست مجرّد حرفٍ على بطاقات الهوية،
بل قصيدةٌ مختزلة، ومعنى قائمٌ بذاته، وجمالٌ يُشبه ابتسامة لبنان عند الفجر.
حرفٌ واحدٌ جمع البحرَ والأرض، المدادَ والنور، الحياةَ والخلود.
فطوبى لمن كان من نسل “نون”…
وطوبى للحرفِ الذي صارَ عائلةً من نورٍ وحكايةً لا تنتهي!

الكاتب من اليمن

قد يعجبك ايضا