التلفزيون الأردني إلى اين ومن أين !

بقلم العميد المتقاعد هاشم المجالي…………………..

أيها السادة، ما زلتُ — وأنا ابن هذا الوطن الذي شابت لحيته على حبه — أُمسك بجهاز التحكم كمن يتمسّك بمسبحته، أتنقّل بين الفضائيات، فإذا بي أعود — رغم أنفي وقلبي — إلى التلفزيون الأردني!
ليس طلبًا لخبرٍ عاجل، ولا لبرنامجٍ باذخٍ بالمعلومة، ولا حتى لملهاةٍ تسلّي القلب الحزين، ولكنها فطرة الأردني القديم الذي شبّ على تلك الشاشة كما يشبّ الوليد على حضن أمه.

كنا نراه منبرًا للغةٍ فصحى، لا يلحن فيها المذيع، ولا تخطئ المذيعة في ضبطٍ أو إعراب. كانت الوجوه كريمة، واللسان طاهرًا، والمحتوى يفيض أدبًا ووقارًا.
أما اليوم، فقد اختلطت اللهجات حتى بتنا لا ندري: أفي عمّان نحن أم في بيروت أم على رصيفٍ في دمشق؟ مذيعون يوزّعون الابتسامات على ضيوفٍ يوزّعون أفكارًا ما أنزل الله بها من سلطان، يعبثون بالقيم كما يعبث طفلٌ بعجينةٍ ملوّنة!

صار تلفزيوننا — سامحوه الله — مطبخًا عامًا، يتطاير من شاشاته بخار الملوخية والدجاج المشوي، في وقتٍ تشتعل فيه غزة، وتُقصف بيروت، ويُقتل الناس في اليمن وسوريا.
أخبار الأمة الكبرى تُختصر في مقادير الوصفة، وملعقةٍ من الملح الزائد، وكأن الوطن بخيرٍ طالما لم يحترق قدر الطبخ!

كانت خطبة الجمعة تُبث بوقارٍ ووقفة، تعالج هموم الناس وتُصلح شأن القرى والعشائر، أما اليوم فقد صارت درسًا محفوظًا من كتاب الثقافة الإسلامية، يُلقى كما يُلقى جدول الضرب على مسامع الطلاب.
والمذيعات — عفا الله عن الجمال إذا فاق الأدب — يقدمن البرامج كما تُقدَّم العطور في واجهات المولات، والمذيع المسكين مكبّلٌ كمن يقرأ نشرة الأحوال الجوية على وجه البركان!

يا سادة، لقد كان التلفزيون الأردني ملكًا للشعب، من أبنائه ولأبنائه، من صدورٍ عرفت الانضباط في معسكرات الجيش والمخابرات، لا في مقاهي المقابلات والمجاملات.
واليوم، تتعاقب الإدارات كما تتعاقب الفصول، ولا نعلم من أين جاءت ولا إلى أين تمضي، غير أننا نعلم يقينًا أنها لم تمرّ من بوابة الميدان الإعلامي الحقيقي.

وإني — على قسوة النقد — أقولها بصدق:
ما زال التلفزيون الأردني صادقًا في نشرة الطقس ومواقيت الصلاة والعطل الرسمية، وهذا لعمري فضلٌ يُشكر عليه!

أعيدوه لنا كما كان: نقيًّا، أردنيًّا، شامخًا بلغته، صادقًا بقيمه، عزيزًا بأبنائه.
فقد تعبنا من “المحتوى الطازج” الذي يُطهى على نارٍ باردة، ومن وطنٍ يُختصر في برنامج طبخٍ ومهرجان غناء.

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا