حين ترتدي الفكرة معطف رامبرانت

بقلم:كِفاء الوجيه  …..

بعض الأشياء يليق بها أن يُحدّق فيها القلب قبل العين،
أن تُلامس بالفِكر قبل الأصابع،
أن تُفهم بنبضٍ بطيء كما يفعل دوستويفسكي حين يُعري أرواح أبطاله.
فتراها …
جميلة ككلمات نزار حين يغزل من الحُزن قصيدة،
رهيفة كقلم مي زيادة، تمشي على حدود الورق دون أن تؤذي،
غامضة كلوحات دالي، حيث ينهض اللاوعي على هيئة دهشة،
منحنية كابتسامة الجيوكندا، لا تدري أهي فرح أم سخرية من الحياة؟
ساخرة كنثر كافكا، حيث البؤس لا يحتاج مبرراً،
ساكنة كموسيقى شوبان، تُبكي دون صوت،
نقية كعزلة ماركيز حين كتب عن الحب في زمن الكوليرا،
متمرّدة كمذكرات فرجينيا وولف، تُعلن الحرب على السائد،
متوحشة كألوان فان جوخ، ترسم وجعها بأصابع من نار،
صادقة كمذكرات رضوى عاشور، تشهد على كل ما لا يُقال.

واثقة كخطى سقراط نحو كأس السم،
مضيئة كفكر ابن رشد وسط ظلام التعصب،
سامقة كجُمل محمود درويش حين يقول: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.

بعض الأشياء لا تحتاج إلى مبررات لتكون عظيمة،
هي تكتفي بأن تكون،
كما تكتفي النجمة أن تُضيء دون أن تسأل السماء عن المعنى.

بعض التفاصيل لا تُروى، بل تُرتشف كقهوة أعدّتها سيمون دي بوفوار على طاولة الفلسفة،
تعلم أن البساطة قد تكون ثورة،
وأن التكرار أحيانًا لا يُفسد المعنى، بل يمنحه جدارة البقاء.

هي لحظات تُشبه مشي نيتشه على الجبل،
تُشبه صمت جبران حين كتب: “صمتي لا يعني جهلي، بل ما حولي لا يستحق الكلام”.
هي مواقف تُقاس بنُبل، لا بردود الأفعال،
تُشبه حكمة زينون، وهدوء لاو تسي، وتوازن أرسطو.

بعض الأشياء تُشبه الفكرة حين تزور عقل المفكر في الصباح الباكر،
تختبئ خلف ستارة الضوء،
تنتظر قارئاً يرى ما وراء الأحرف،
يسمع ما لم يُكتب،
ويؤمن أن الأشياء التي لا تُفهم بسهولة،
ليست غريبة… بل فقط من نسج أولئك الذين يرون العالم بمنظار مختلف.

هي لحظات تعني الحياة بلا شروح،
كما تعني الكتابة بلا حزن،
والحب بلا خوف،
والوجود بلا قيد.

بعض الأشياء يليق بها أن تُفهم بالصمت،
تمامًا كما فهم ريلكه الحب دون أن يكتب له تعريفًا،
وكما رسم ليوناردو دافنشي ملامح الروح في عيون امرأة واحدة،
وكما أغمض كافكا عينيه عن العالم ليصوّره أكثر وحشة من الحقيقة.

بعض التفاصيل تُرى كما رآها مونيه في ألوان الشروق،
ويُصغى لها كما أصغى بيتهوفن للموسيقى بعد أن صمت كل شيء من حوله.

كغموض أجاثا كريستي ودهشة بورخيس في متاهات الوعي،
وثورة فيرجينيا وولف على ضوضاء الزمن.

وتلك اللحظة التي يختلط فيها المعنى بالعاطفة،
هي كالقصيدة حين يكتبها المتنبي معتدًّا،
أو كما قال المعري : «هذا ما جناه عليّ أبي»،
حين فهم أنه يحمل ميراثًا من الفكر لا من الجينات.

بعض الأشياء تُقدَّر كما قدَّرها فيكتور هوغو حين حوّل الألم إلى رواية،
وتُحتفى كما احتفى محمود درويش بالمنفى،
وتُصان كما صان طه حسين الكلمة في عتمة البصر،
وتُرقّ كما رقّت غادة السمان المعنى تحت رماد الاحتراق العاطفي.

هي أشياء لا تُلمَس،
لكننا نعيش بها،
نشبهها حين نُفكّر،
حين نحب،
وحين نختار أن نكون غير اعتياديين.

هي أشياء لا تُروى، بل تُستشعر،
لا تُفسَّر بل تُؤمن بها كأنها عقيدة الجمال.

الكاتبة من اليمن

قد يعجبك ايضا