أمن مصر في مواجهة عالم من التسريبات

 

تتعدد مشاهد التسريبات في مصر، لدرجة تحولها أحيانا إلى تسريبات وتسريبات مضادة، تشارك فيها الدولة وغيرها من الأطراف دون حرج ودون محاسبة. ورغم التنوع الذي يحاول التركيز على المحتوى دون المعنى الأعمق للفكرة فإن الدولة – النظام بشكل فعلي- تعد طرفا أساسيا في كل ما يحدث، وبالمجمل، طرفا خاسرا حتى إن ظهر مرحليا في صورة الطرف القوي المتفرد بالزعامة والقوة.
ولكن المشكلة أن تلك الخسارة لا تخص نظام حاكم وحسابات صناديق الاقتراع والبقاء في السلطة لسنوات محسوبة من عدمه، بقدر ما تخص الوطن ومواطنيه، والحدود والسيادة، وتفاصيل كثيرة تتعلق بالدور والمكانة في الحاضر والمستقبل.
وبداية يمكن حصر التسريبات التي نتعامل معها في عدة أنواع: فهناك تسريبات تنشر في وسائل معارضة وتركز على تسريب أحاديث يعد أحد أطراف النظام طرفا فيها، مثل الرئيس عبد الفتاح السيسي ومن حوله. وهناك تسريبات تبدو وكأنها مضادة تقوم على نشر تسجيلات لأطراف من خارج السلطة، عبر وسائل إعلامية وشخصيات قريبة من السلطة، كما في تسريبات الدكتور محمد البرادعي وغيره. وهناك تسريبات تخص لقاءات أو حوارات أجراها النظام بشكل سري، وتبرع طرف من الأطراف المشاركة بالإعلان عنها أو تسريبها، من أجل حسابات تخص هذا الطرف أو ذاك، فتكون معرفتنا بها مشتقة من الآخر وأجندته ومصالحه، كما حدث في الأخبار المنشورة في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 19 فبراير 2017 عن لقاء السيسي مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير 2016 بمنتجع العقبة الأردنى. وهناك تسريبات أكثر اتساعا تتعلق بتسريبات دولية قد تخص مصر بشكل مباشر أو غير مباشر، كما في ويكليكس وما جاء فيها عن علاقات المال والسياسة والإعلام حولنا. وهناك حقائق تظهر ضمن ملفات محاسبة في دول أخرى، كما حدث في تقرير التعذيب الذي نشر في أمريكا وكشف عن أدوار لدول اخرى مثل النظام المصري وقت حكم الرئيس الأسبق مبارك في عمليات التعذيب بالوكالة.
قد يرى البعض أن تلك التسريبات بعيدة عن النظام ولا تخصه، أو أنها تقع في المكانه نفسها، ويفترض المساواة بينها، وهنا يكون التعميم مخلا لأنه يقوم على المساواة بين أطراف غير متساوية، سواء في الدور أو المكانة أو المسؤولية المفترضة، وما ترتبه من حقوق وواجبات تخص وطنا وشعبا.
بداية فإن التسريبات التي تنشر لأطراف في السلطة، قد تعبر عن وجود صراعات داخلية بين أطراف في النظام الحاكم، أو عن وجود أعداء في الدوائر المقربة لم يتم الكشف عنهم، رغم كل حديث النظام ليس فقط عن السيطرة والقدرة، ولكن عن الاستهداف وأولوية الأمن والتأمين. فهل يعاني النظام من خلافات داخلية تعلن عن نفسها في صورة التسريبات؟ وإن كان، كيف لم يستطع ضبط تلك الأطراف والحيلولة دون استمرارها؟ وهل هو قادر على حماية نفسه والوطن؟ اسئلة مهمة لفهم حدود قدرة النظام، والفارق بين ما يعلنه وما يملكه من قدرة حقيقية على أرض الواقع، خاصة حديث إدراك مشاكل مصر وعلاجها مقابل الغياب عن مشاكل النظام وعلاجها والعديد من التناقضات الأخرى القائمة.
أما تسريبات الأفراد فلا يمكن أن تتم بمعزل عن النظام، وإن لم تكن مؤسسات الدولة هي التي تسجل للأفراد وتذيع تلك التسريبات عبر توفيرها لمن يتولى إذاعتها، فهل النظام من الضعف بحيث تتواجد داخل الدولة تنظيمات موازية، تقوم بالتسجيل لأفراده ونشر تلك التسجيلات دون أن يتحرك النظام الرسمي بالإدانة والتحقيق ووقف إذاعتها؟ وكيف لا يستطيع التوصل لتلك الأطراف ويترك شخصيات مقربة منه تذيع تلك التسريبات بدلا من أن يكشف عن الجهة التي تقوم بالتسجيل تحت أنفه؟
يمتد إطار التسريبات ليصل للقاءات مهمة تعقد وتناقش قضايا شديدة الخطورة والمصيرية، كما حدث مع قضية جزيرتي تيران وصنافير، ولكن تلك المرة لا تواجه باتفاقات يطالب الشعب بالصمت والإذعان في مواجهتها، عبر خطاب الرئيس الآمر وكأنه في ثكنة عسكرية، ولكن عبر مصادر إسرائيلية تتحدث في أمور شديدة الأهمية تخص سيناء وخطط التسوية المحتملة، على حساب مصر. ولكن بدلا من المحاسبة والمكاشفة يسارع البعض بتوجيه اللوم لإسرائيل لأنها لم تلتزم بسرية اللقاء، ويتجاوز هؤلاء عن فضيلة المحاسبة التي تغيب عن عالمنا وتتواجد لدى غيرنا. يتصور البعض أن الجميع يعيش في صناديق مغلقة، لا يحصل المواطن على معلوماته فيها إلا من إعلام السلطة، ولا يسمع إلا توجيهات المسؤول، ولا يعرف من العالم إلا أوامر وخطط الأجهزة الإعلامية السيادية التي يريد البعض أن يخلق منها كيانا ضخما يتفرغ للتلاعب بالجماهير ومعارفهم.
تأتى تسريبات «هآرتس» لتعيد خلط أوراق البعض في الداخل، بين تجاوز عن تسريبات تتم بمعرفة النظام ويتم الاحتفاء بها، أو تتم من داخل النظام ويتم الاكتفاء بالتشكيك فيها، أو التجاوز عنها لتقف في مواجهة عالم مختلف. عالم يتم فيه نشر الأخبار بوصفها سبقا صحافيا لمصادر شاركت في إعداد لقاء العقبة من داخل الإدارة الإسرائيلية والأمريكية، وفي توقيت محسوب، حيث التغييرات في الإدارة الأمريكية ورسم سياسات جديدة، وخضوع نتنياهو للمحاسبة في قضايا فساد. ويتحول السبق إلى بوابة لمحاسبة سياسية أخرى تتساءل عن الفرص الضائعة في التسوية وأسباب ما حدث. كل تلك التساؤلات المنطقية في السياسة لا تتواجد في عالم تغيب عنه المحاسبة، ويرى المسؤول أنه غير معني بالتوضيح أو الرد، وأنه فوق السؤال وفوق النقد، وأنه فوق الوطن والمواطن.
تثير «هآرتس» بالإعلان عن لقاء العقبة الكثير من التساؤلات عن الموقف المصري، الذي يخصنا هنا، وإن كانت تثير تساؤلات عميقة عن الموقف العربي والقضية الفلسطينية بالطبع. الحديث عن اقتراح كيري الخاص بالاعتراف بدولة اسرائيل اليهودية، دون إعلان تحفظ أو رفض الأطراف العربية المشاركة، أمر شديد الخطورة لأنه يتعلق بجزء أصيل من حق العودة وحل الدولتين. أما مطالبة إسرائيل بإدخال أطراف سنية أخرى، وتحديدا السعودية والإمارات، التي تم من قبل تأكيد معرفتها بخطة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير قبل الشعب المصري، فهو أمر يضيف الكثير لفكرة التنازل عن الجزر، من أجل إعادة تشكيل معاهدة السلام وإدخال السعودية كطرف مباشر في العلاقات مع إسرائيل. وضع يضاف لتسريبات وزير الخارجية المصري ونقاشه لبنود اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير مع المستشار القانوني لرئيس الوزراء الاسرائيلي. بالإضافة لما نشره الوزير الإسرائيلي بدون حقيبة أيوب قرا عن موافقة مصر على توطين الفلسطينيين في سيناء، ضمن خطة تسوية يفترض أنه عرف بها من نتنياهو قبل لقاء الأخير مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فبراير الحالي.
كل تلك الأمور شديدة الخطورة تحتاج لتوضيح من أعلى مستوى في الدولة، يعلن للشعب ما الذي تقدمه مصر في عمليه السلام، خاصة أن حديث السيسي العابر في مايو 2016، وبعد وقت قصير من لقاء العقبة المشار إليه في فبراير والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في أبريل، كان شديد الخطورة لأنه أكد على دور لم يحدد ماهيته، ولأنه توجه للآخر وليس للشعب المصري المعني أكثر من غيره بموقف بلاده، وما يمكن أن تقدمه أو تقوم به دون الحديث عن ما يقوم النظام بالتنازل عنه، بالطبع لأنه خارج تصورات أي شعب.
أما محاولات بعض المقربين من السلطة الإشادة برد الرئاسة عن لقاء العقبة والتأكيد على حدوثه، مع عدم صحة كل ما جاء في الخبر، دون توضيح أوجه الاختلاف، فهو جزء من محاولات تحويل السلبيات إلى إيجابيات، والسبق بالصوت المرتفع ولوم اسرائيل، بدل أن نحاسب النظام الذي يخصنا وندافع عن الأرض التي تخصنا، والحقوق التي لا يفترض أن نعرف عنها عبر تسريبات أطراف أخرى. نعم في عالم السياسة لقاءات مغلقة وسرية، ولكن عندما يتعلق الأمر بثوابت موقف وسيادة أرض، لا يصح الاكتفاء بتلك الكلمات الفضفاضة، ولا يصح أن يمر الحدث ككل بدون وقفة مكاشفة ومحاسبة، ولا يصح أن تصبغه عبارات الإشادة على القليل جدا وهو عدم إنكار الحدث الذي لا يستطيع أحد إنكاره بسبب الأطراف الأخرى المشاركة فيه وليس لقيمة مواطنيه.
للأسف لا نملك مؤسسات تحاسب باسم الوطن والشعب، ولا أحد يحاسب بعد عن التنازل عن الجزر أو التجاوز في تمليك الاراضي في سيناء، أو مجمل ما يحدث فيها أو غيرها الكثير من الأمور المقلقة، وسط خطاب يتعامل مع المواطن بوصفه كائنا هامشيا يفترض ألا يعرف وإن عرف يفترض أن يقتنع بالإنكار أو يقبل بكلمات فضفاضة تحتمل كل الألوان وتتيح الفرصة لكل المفآجات. وما زال إشغال الناس قائما بالمزيد من الأزمات والتهميش، والصوت المرتفع في مواجهة حقائق تتكشف من تسريبات الآخرين وتتعايش على هوامش ديمقراطية غيرنا، عندما تجبرهم على المحاسبة والمكاشفة، فنعرف ما لم يعلن لنا ونكتشف الفجوة بين خطاب لنا وخطاب لغيرنا. ولكن العزاء أن يكون هذا التراكم في المعرفة في صالح الوطن وحقوقه، وفي صالح الإصرار على الحق في المعرفة والمحاسبة، وعلى أن الديمقراطية خيار وحيد من أجل وطن أفضل، والأكثر أهمية من أجل حماية هذا الوطن نفسه الذي لا يفترض أن يحكم بالتسريبات، وأن يعرف عن نفسه عبر التسريبات وأن يخاف على نفسه ممن يحكمه ويحمي نفسه عبر المحاكم.
كاتبة مصرية

** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط

قد يعجبك ايضا