هل أطفأت الضوء، وأكلت التفاحة؟!…
غادة السمان
كنت في المقهى الباريسي مع صديقة من أصل لبناني نشرب القهوة ونتسامر. روت لي نكتة: فقير لبناني اشترى ثلاث تفاحات. بدأ بالتهام الأولى فوجد فيها دودة تنخرها من الداخل فرمى بها مشمئزا.
وحدث الأمر مع التفاحة الثانية. ولذا اطفأ الضوء وأكل التفاحة الثالثة في الظلام. لم أضحك بل أحزنتني حقًا هذه النكتة!! ذكرتني بلبنان والفساد الذي ينخر تفاحته من الداخل كدودة متوحشة لم تعد المؤسسات الحكومية تقف في وجهها دائما إذ بين المسؤولين من يدعمها وينال حصته قضمة من هنا وقضمة من هناك. تلك الدودة اسمها «الفساد». ولبنان ليس وحده من يعاني منها بل الكثير من أقطارنا العربية، لكنني أعرف بعض ما يدور في لبنان كمعلومات وفي بعض بقية الأقطار العربية وأترك الكلام عن ذلك لمن ذاقوا عضات تلك الدودة أو لديهم معلومات موثوقة عن شراهتها الاستثنائية في قضم التفاحة!
د. عبد الحميد الأحدب و»الأوادم»
يلفتني المحامي الأديب اللبناني د. الأحدب رئيس لجنة التحكيم العربية وصاحب مجلة لبنانية عالمية حضارية هي «مجلة التحكيم» باحتفائه «بالأوادم». و«الأوادم» خيط يربط بين كل ما يسطره ـ فلان (آدمي) باللهجة الشامية تعني ببساطة أنه إنسان بمعاني الكلمة كلها وليس وحشا كاسرا على المغانم كتلك الدودة في قلب التفاحة.
د. عبد الحميد الأحدب يكتب باستمرار في منابر عربية مقروءة وجوهر ما يخطه هو دعم (الأوادم) وهو ما فعله على طول تاريخه برغم أنه دفع ثمنا باهظا لذلك، (فالأوادم) يقولون رأيهم علنا وببراءة الأطفال ويأتي الرد من (حزب الدودة) ـ بكافة أسمائها ـ غطرسة وأذى.
فجروا بيت (الآدمي) وقتلوا طفلته
ما الذي حدث للمحامي د. الأحدب الذي أعلن ببساطة أن في التفاحة دودة ولن يشاطر أحدا في أكلها بل سيفضح ذلك؟.. وسيعلن بصدق انتماءه للبنان؟
لقد واجهته (الدودة) بمنطقها الذي لا يسمح لأحد الوقوف في وجه أسنانها الشرهة، وصحونا ذات يوم على خبر انفجار كبير في بيت محام (مبتدئ) يؤسس حياته بطفلين وزوجة هو الأحدب وكلما التقيت اليوم زوجته الجميلة صديقتي نهى في إحدى زياراتها إلى باريس وشاهدت آثار الجراح الفادحة في ذراعها حين ينكشف الثوب عنه ونحن نتناول الغداء معا، أشعر أن المجرمين تركوا توقيعهم على جسدها كله للتخويف بعدما نجحوا في قتل طفلتها جمانة.. وأن الدودة المجرمة لا تنال منا إلا في حقل الاشمئزاز منها.. حيث (الزعرنة) و(التشبيح) واختراق مؤسسات الدولة اللبنانية لن يستطيع تطويعنا على الركوع للدودة بكامل أعلامها وأسمائها وشعاراتها.. ما الذي ذكرني بكل ما تقدم؟ إنه المقال الأخير في ذكرى (الحكيم) الدكتور عبد المجيد الرافعي الذي كتبه الأحدب الذي لا ينتمي إلى حزب الرافعي أو سواه، ولكنه وجد الرافعي ينتمي أولا إلى (الأوادم).
(للأوادم) أيًا كان حزبهم!
يوم عاد د. الأحدب إلى بيته (وكان غائبا حين حدث الانفجار) وبرفقته طفله ووجد طفلته جمانة مقتولة وزوجته الجميلة نهى مجروحة وفي حال خطرة.. لم يقع في هوة اليأس البائس كما أرادوا له. بل عَبّر في سلوكه عن الإرادة اللبنانية للحياة والاستمرارية والمقاومة أي مقاومة الدودة داخل التفاحة اللبنانية أيا كانت الأسماء التي تحملها… وحمل ما تبقى من أسرته وجراحه ورحل إلى باريس وحمل جنسيتها وأسس مكتبا للمحاماة صار من أهمها في باريس لكن الشوق إلى لبنان ظل حيا في قلبه وبعد عقود عاد وزوجته إلى بيروت وإلى مكتبه الكبير للمحاماة في بيروت (كما في باريس).. إنها روح المقاومة اللبنانية ضد كل من يحاول دعسها والتهام جمالياتها كما تلتهم الدودة قلب التفاحة.
(الآدمي) الإنساني الراحل د. الرافعي
ومما ذكرني بكل ما تقدم رثاء د. الأحدب للطبيب الإنساني الآدمي الدكتور عبد المجيد الرافعي بغض النظر عن انتمائه الحزبي، وفي (آدميته) يكمن سر نجاحه في مدينته طرابلس ولبنان كله، وشعبيته. فالأحدب لم يكن يوما حزبيا. ما يهمه حقا في الإنسان هو (الآدمية) واعترفُ بأنه سرني ذكره لزوجي د. بشير الداعوق الراحل قبل 10 سنوات في باب «الأوادم» و«الآدمية» هي المفتاح، وهي عدوة الدودة في التفاحة وتلك العداوة المعنوية المعلنة هي ما يفتقده الناس اليوم ولذا يفرحون برموزها من أحياء وراحلين..
لبنان ليس فريدا في كراهيته للدودة وحرصه على التفاحة وفي بلادنا العربية كلها ديدان تنهش حق الإنسان في العدالة والكرامة وتحمل علنا راية الرشوة والنهب والفساد، وليس ثمة من ينجو منها، ولذا يشعر المرء بالحاجة لتقديم التحية إلى الأبجدية التي ما زالت تحتفي (بالأوادم) في زمن الديدان، كأبجدية الأحدب وسلوكه اليومي.
لبنان ليس فريدا في حقل الفساد
أعرف جيدا أن ما أكتبه عن لبنان ينسحب على العديد من الأقطار العربية وأن دودة الفساد تتكاثر وتتناسل ولذا أدعم بلا تحفظ «حزب الأوادم» أينما كان وأعرف كم من الحكايا حول الفساد يمكن أن يسطرها القراء.. بل وأتمنى تأسيس حزب «تجمع الأوادم».
ولن نرضى بأن يصيروا فصيلة منقرضة.
