منظمة «نحطم الصمت» تروي موجز تاريخ الاحتلال الإسرائيلي
شاحنتان لشركة «غواتا للنقل والرافعات» تسلقتا هذا الأسبوع وهما تحملان كرفانات صاعدة في اتجاه بيت إيل. سيارة شرطة رافقتهما ووراءها جيب عسكري. «الحذر.. حمولة زائدة» كتب على الشاحنة الناقلة كإشارة. منذ البداية لم يكن شيء بالصدفة في إقامة المستوطنات وصورة انتشارها. الخرائط تتحدث: كل مدن الضفة الغربية، باستثناء جنين، محاطة من كل الجهات بالمستوطنات. وهو مشروع بدأ بعودة حفنة من المتطرفين إلى الخليل، وإلى غوش عصيون وبيت السبعة في بيت حنينا، وهذه العملية تسارعت بسرعة على ضوء الفكرة الصهيونية القديمة التي تقول إن توطين اليهود يخترق كل حدود السيادة.
منظمة «نحطم الصمت» تريد الآن رسم هذه العملية من بدايتها حتى الآن: منذ تأسيسها في 2004 أرسل أعضاؤها مئات الجولات إلى الخليل وجنوب جبل الخليل، وشارك فيها كل سنة 5 آلاف إسرائيلي وأجنبي. لم يرجع أحد منهم غير مبال من حي الأشباح ومن الترانسفير، من بلاد المغر التي اقتلع سكانها. وفي وقت قريب ستطلق المنظمة جولة جديدة وسط الضفة، التي ستشرح تاريخ الاحتلال منذ بدايتها حتى أيامنا. المسؤول عن تخطيط الجولة هو يهودا شاؤول، من مؤسسي «نحطم الصمت»، الذي كان في السابق رجلاً أصولياً وجندياً مقاتلاً. شاؤول (36 سنة) عمل خلال سنة ونصف على هذا المسار، وعلى كتابة التوجيهات وأعداد الخرائط. لذلك قرأ 40 كتاباً عن المستوطنات وبحث في الأرشيفات. شرحه خلال تعرجات الشارع ممتاز. هو موضوعي وغزير المعرفة وبعيد عن الشعارات وعلى ثقة وثيقة ويركز على الحقائق ويصوغ كلامه جيداً بالعبرية والإنجليزية. خطة الجولة استمرت سبع ساعات: يوم في رام الله، من موديعين عيليت حتى بيت عهد التميميم في النبي صالح. من خطة الون في 1967 وحتى شوارع «نسيج الحياة» المخصصة للفلسطينيين. خلال الجولة تتضح الصورة تماماً: أهداف الاحتلال حددت فوراً بعد حرب الأيام الستة. كل حكومات إسرائيل دون استثناء عملت على تحقيقها.
المليون الأول
أساس خطة المستوطنات كانت منع إقامة كيان فلسطيني بين البحر والنهر، بواسطة تقطيع الضفة ونجزئتها إلى شظايا من قطع الأراضي، الطرق تغيرت والهدف بقي على حاله، واضح ومحدد: سيطرة إسرائيلية إلى الأبد. ليس المتطرفون اليمينيون هم الذين طبقوها، بل أعماق قلب إسرائيل: وكالات سلطتها، بدعم جهاز القضاء والإعلام، في الطريق إلى المليون مستوطن، المليون الأول، كل الطرق كانت مباحة.
الآن الهدف الرئيسي هو تطوير البنى التحتية: الشوارع السريعة والمنفصلة، الطرق الالتفافية والمضللة، الأنفاق والمفترقات، وهذه أكثر مصيرية من 10 آلاف مستوطن. هي تمكن كل مستوطن من العيش في أمن نسبي، بحيث لا يرى الفلسطينيين ولا يسمع عن وجودهم، السكن بسعر رخيص وأن يصل بسرعة إلى عمله في إسرائيل. هذا هو السر الذي مكن 650 ألف إسرائيلي من خرق القانون الدولي والعدالة الطبيعية والسكن في مناطق الاحتلال والشعور بالرضى عن النفس. بضع عظمات يرميها كل مرة الاحتلال لمن قام باحتلالهم بحيث تمكنهم من مواصلة حياتهم تحت الحذاء دون معارضة أكثر من اللازم.
بدأ هذا في شرقي القدس التي تم ضمها مع الـ 28 قرية وحي محيطة بها. وعلى الفور بدأ فيها مشروع الاستيطان الذي استهدف تحقيق تواصل جغرافي إلى جيوب جبل المشارف «أحياء هبريح»، وتوسيع حدود «أحياء هلفيان». عندما بدأ الحديث عن القدس عاصمة لفلسطين أقيمبت الأحياء التي هدفت إلى فصل المدينة عن الضفة الغربية: خطة الون، التي لم يصادق عليها في أي يوم بصورة رسمية لكنها نفذت بشكل جيد، استهدفت فصل الضفة عن الأردن بواسطة شارعين ـ شارع الغور وطريق ألون ـ وإقامة مستوطنات ومواقع تدريب على طول الشارعين. بعد حرب 1973 عندما بدأت في الظهور شكوك في أوساط الآباء المؤسسين لحركة الاستيطان، أعضاء حركة العمل، تم إنشاء حركة غوش ايمونيم لتشكل لهم البديل. منطقة الخليل والقدس امتلأت بالمستوطنين، وبعدها توجهوا لمنطقة نابلس. شمعون بيرس ساهم في انشاء عوفرا عن طريق التحايل، وفي أعقابها جاءت المستوطنات الأخرى. في 1977 حدث الانقلاب وتم تعيين اريئيل شارون وزيراً للزراعة: الآن أرادوا محو الخط الأخضر في الغرب وإنشاء ممرات على عرض الضفة من أجل تقسيمها. مرة أخرى الحديث لم يكن عن أفكار متطرفين، بل عن سياسة راسخة ومخططة لحكومات إسرائيل من أجل تخليد سيطرة إسرائيل على أرجاء المناطق المحتلة ومنع استقلال فلسطيني، حتى قبل طرح حل الدولتين.
أراضي المستوطنات تم الحصول عليها بعدة طرق، جميعها مخادعة: هذا الأمر بدأ بمواقع الجيش الأردنية. بعد ذلك جاءت المصادرات «للاغراض العامة»، بالأساس في شرقي القدس ومعاليه ادوميم. بعد ذلك جاء «وضع اليد لأغراض عسكرية»، في الوقت الذي كانت فيه الدولة تضلل المحكمة وتدعي أن المستوطنات تخدم أغراضاً مدنية. إلى أن جاءت قضية الون موريه في المحكمة العليا في 1979، حيث وضعت حد لهذه الخدعة. لم يكن أمام الدولة خيار سوى اختراع خدعة جديدة: الإعلان عن «أراضي دولة»، التي تحولت إلى الصندوق الغني القادم للمستوطنين. وهو مناورة أخرى استندت إلى قانون عثماني قديم يبين أن الأراضي غير المزروعة يمكن مصادرتها. ليس عبثاً أن معظم المستوطنات تقع على قمم الجبال والتلال: هناك أراض قفر تصعب فلاحتها وتسهل سرقتها.
في التسعينيات أفادت اتفاقات أوسلو الخطة الرئيسية الكبرى: تقسيم المنطقة إلى قطع صغيرة. جيوب أبرتهايد، والتي تسمى أيضاً بنتوستانات في أوساط الفلسطينيين. 82 في المئة من المناطق المحتلة بقيت تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، لكن التجديد الأساسي من الاتفاقات ومن الانتفاضة هو شق الشوارع الالتفافية، والاختراع القادم للاحتلال. حسب المرشد شاؤول، فهذا هو التطور الأهم بعد أوسلو. النضال انتقل من المستوطنات إلى البنى التحتية ـ يجب منع المستوطنين من الحركة في شوارع خطيرة ومعادية، التي ليست لهم، وتقديم إجابة أفضل لهم بحيث لا يسافرون إلى بيوتهم عبر مخيمات اللاجئين في الدهيشة وعايدة. فقط بهذه الطريقة يمكن مضاعفة عددهم بثلاثة أضعاف في السنوات القادمة.
تقطيع الضفة
في هذه الشوارع نحن ننتقل على طول الضفة. الآن نحن نقف قرب وادي الحرامية، شارع 60 القديم يتقاطع مع شارع 60 الجديد، شارع عابر رام الله، ومثله توجد عشرات الشوارع التي مكنت المستوطنين من مضاعفة عددهم بثلاثة أضعاف. لافتة موجودة على الشارع كتب عليها «مارلو، مطعم ومقهى في شيلو». الطريق إلى مارلو لم يعد يمر عبر سنجل. «هذا يعيش» كتب على سيارة «بيرا كورونا» ربما تشق طريقها إلى هناك.
صحن الأقمار الصناعية «الدش» مرفوع والرياح الباردة تضربه بوحشية، نحن نطل على منطقة البؤر الاستيطانية التي تقع حول شيلو. هذه البؤر الاستيطانية ولدت في نهاية التسعينيات، والمشهد لا يصدق حتى لمن يعرف المناطق. هو يقنع أكثر من ألف مقال. هكارون، بلغيماين، هيوفال، ايش كوديش، عدي عاد، هروعيه وكيدا، هذه أسماء غير مؤقتة بصورة واضحة لمستوطنات غير مؤقتة بشكل واضح. بين عيلي وشيلا كل التلال مزروعة بالكرفانات. لا توجد تلة من غير بؤرة استيطانية. أيضاً السهل مزروع بها في معظمه.
خط متواصل من اريئيل وحتى سلسلة البؤر الاستيطانية هذه مخصص لتقطيع الضفة هنا أيضاً. الهدف مرة أخرى هو منع قيام كيان أجنبي، لقتل الطفل الذي لم يولد؛ حل الدولتين الذي يتحدث العالم وإسرائيل عنه منذ عقدين. صحن الأقمار الصناعية الذي سحبنا المرشد إليه في ظل الرياح الباردة، الصورة واضحة وقاطعة. هكذا أيضاً تم منع أصحاب الأراضي الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم وفلاحتها بسبب البؤر الاستيطانية وتعسف سكانها ـ هكذا كان يمكن سلبها منهم بسهولة أكبر. قانون التسوية، الصرخة الأخيرة التي جاءت من بيت الاحتلال، ستشرعن أيضاً البؤر الاستيطانية.
في القرى الفلسطينية المجاورة التي نواصل طريقنا إليها، عدد من السكان ما زالوا يريدون إثبات أن الحياة تسير كالمعتاد رغم كل شيء: من بينهم أيضاً باسم التميمي، والد عهد، الذي استضافنا في بيته في النبي صالح. عهد نهضت في وقت متأخر في ذلك اليوم وانضمت إلينا وهي حافية القدمين وتتثاءب. لقد أنهت امتحانات الثانوية والآن هي تخطط للسفر إلى لندن مع والدها باسم لبضعة أشهر من أجل تعلم الإنجليزية بمساعدة منحة حصلت عليها. مر نصف سنة تقريباً منذ إطلاق سراحها من السجن، هي تعبة قليلاً من الانتشار الإعلامي لها. أيضاً قريتها المناضلة مرهقة قليلاً: منذ بدأ الجيش في إطلاق النار الحية على أرجل المتظاهرين توقفت مظاهرات يوم الجمعة ـ والاحتجاج يبحث عن وسائل أخرى. «المقاومة لا يجب أن تكون معاناة»، قال لنا باسم في صالون بيته الذي تم ترميمه والذي يهدده أمر بالهدم. البيت رمم في الوقت الذي كانت فيه زوجته وابنته معتقلتين. ابنه وعد ما زال معتقلاً. المرشد شاؤول قال إن عهد لم تكن تشكل خطرا على إسرائيل لأنها عرضت أمن الدولة للخطر، بل لأنها عرضت الاحتلال للخطر. والاحتلال لم يكن قادراً على تحمل فلسطينيين يرفعون رؤوسهم.
بوابة حديدية بلون أصفر تغلق أحد مداخل قرية النبي صالح، مثل قرى كثيرة أخرى. أيضاً هذه سياسة محسوبة: الإغلاق والتطويق وإبقاء بوابة واحدة مفتوحة، طريق إجباري بلغة الاحتلال. البنية التحتية للسجن قائمة، خلال دقائق وتكون القرية محاصرة، لا أحد يدخل ولا أحد يخرج. أيضاً التأثير النفسي المهدد واضح.
الفتحة والقفص
على بعد دقائق سفر من النبي صالح تقع أكبر المستوطنات، موديعين عيليت. 65 ألف مستوطن أصولي. الحريديون هم تطور مثير للانطباع في تاريخ مشروع الاستيطان: نصف الزيادة في عدد المستوطنين منذ أوسلو يتكون من الأصوليين. 20 في المئة من المستوطنين يعيشون الآن في مستوطنتين، بيتار عيليت وموديعين عيليت، وهما قريبتان من الخط الأخضر، تقريباً في ضواحي القدس وبني براك الحريديتين. هذا كان الحل لمشكلة السكن لهذا القطاع، الذي ابتعد طوال سنوات عن المواقف الوطنية واليمينية. الآن أيضاً هم هناك. منذ ذلك الحين، وكما يبدو إلى الأبد.
في نهاية اليوم وقفنا فوق الفتحة التي هي شارع الفصل للفلسطينيين، من جيب قرية بدو وبيت سوريك وقطنة باتجاه رام الله. من فوق الفتحة سافرت السيارات الإسرائيلية في شارع 443، الشارع الرئيسي للعاصمة، دون أن يستطيع السائقون رؤية الشارع الذي هو تحتهم، والمسوّر من كل الاتجاهات بالأسلاك الشائكة والجدران الحديدية.
الإسرائيليون في الشارع السريع من أعلى، والفلسطينيون عبر فتحة تحت الأرض في الأسفل، في صورة تساوي ألف كلمة. «نسيج حياة»، هكذا تسمي إسرائيل شوارع الفصل هذه. يبدو أن هذا عمل لذوي النوايا الحسنة.. فعلياً، تطوير آخر للأبرتهايد.
الفصل قائم أيضاً على بعد مئات الأمتار في جفعون الجديدة ـ هناك بيت عائلة غريّب، محاط من كل الجهات بالجدران، الكاميرات وبوابة كهربائية. هنا الاحتلال يتجسد بشكله القبيح: عائلة فلسطينية فصلت عن قريتها وبقيت تعيش في هذا القفص، في قلب مستوطنة جفعون الجديدة، الذي أصدرت المحكمة حكمها بأنه «ضرر متناسب». الفتحة والقفص، شارع 443 وجفعون الجديدة، الضرر المتناسب و«شوارع نسيج الحياة». بين هذه الحدود انتهت الجولة الممتعة التي تثير الأفكار الصعبة والاكتئاب في مناطق الأبرتهايد. كان الوقت متأخراً بعد الظهر في يوم ماطر وعاصف، والأفكار التي طرحت خلال اليوم سترافقنا لفترة طويلة.
جدعون ليفي واليكس ليبك
هآرتس 11/1/2019