رسالة إلى يوسف

الشاعرة ميادة سليمان/ سورية …….

 

رسالة إلى يوسف

حبيبي يوسف
اشتقتُ كثيرًا إليكَ
أحيانًا أشعرُ أنّ العناقَ الرّوحيَّ
لا يروي ظمأَ حنيني
أحتاجُ أن أضمّكَ بقوّةٍ إلى صدري
وأشمَّ رائحتكَ، وأسمعَ أنفاسَكَ ونبضَ قلبِكَ
لكنّ كلّ أمنياتي
تصطدمُ بجدارِ الحقيقةِ المؤلمةِ
الّذي كُتبَ عليهِ:
لا يوسفَ هنا في هذي الحياةِ!

حبيبي يوسف..
هذا العامُ الثّاني على رحيلكَ
وفي كلِّ عامٍ تتجدّدُ مواجعي
حينَ يبدأُ امتحانُ الشّهادةِ الإعداديّةِ
وحين يتهيّأُ الأهالي لصدورِ النتائجِ بقلقٍ وخوفٍ
وأنا وحدي ينتابني الحزنُ
لا شهادةً أنتظرُها
ولا خبرَ يترقّبهُ قلبي بفارغِ الصّبرِ..

رحلتَ ..
وتلكَ البطاقةُ الّتي لم يُقدّرْ لكَ أن تضعَها
على ذاك المقعدِ المخصّصِ لكَ في قاعةٍ ما
ما زالتْ كبطاقتي الشّخصيّةِ
أحملُها في حقيبتي
هي هويّةُ الحزنِ الّذي به أدخلُ
عوالمَ روحيّةً
دونَ أن يوقفَني أحدٌ..
رحلتَ قُبيلَ امتحانٍ بقيتَ عامًا أو أكثرَ تستعدُّ لهُ
ثمّ حينَ بدأ الامتحانُ..
كنتَ هناكَ في السّماءِ
تفرحُ لأصدقائكَ إن أجابوا باجتهادٍ
وتحزنُ إن خرجوا من الامتحانِ مكتئبينَ
يمرّ المُراقبُ من أمامِ مقعدكَ ويسجّلُ:
(يوسفَ سليمانَ) غائبًا!
وأنتَ هناكَ تهزأ بمفاهيمِنا الدّنيويّةِ
فأنتَ الحاضرُ
ونحنُ الغائبونَ عن دنيا الحقِّ، والعدالةِ الإلهيّةِ..
نجحَ رفاقُكَ في امتحانِ الإعداديّةِ
لكنّكَ تفوّقتَ في اجتيازِ الامتحانِ الرّبّانيِّ
وما جرى معكَ، ومعنا أقسى وأصعبُ
من جميعِ امتحاناتِ الطّلّابِ..

أراكَ هناك ينتابكَ الحنينُ
فتزورُ شارعَ السّياسيّةِ
تتوقّفُ عندَ كلِّ حاجزٍ عسكريٍّ كعادتِكَ
تلقي السّلامَ على الجنودِ الّذينَ كانوا يحمونَنا
تزورُ المساكنَ العسكريّةَ الّتي كنّا نقيمُ فيها
تلقي السّلامَ على غرفتكَ
وعلى الشّرفةِ الّتي لطالما خبّأتَ فيها عصافيرَ
كي لا أراها، وأوبّخكَ..
تزورُ الفوجَ العسكريَّ الّذي لطالما رافقتَ أباكَ إليهِ
وأنتَ تحلمُ بنيلِ الشّهادةِ الثّانويّةِ
كي تدخلَ الكليّةَ الحربيّةَ
وتصيرَ ضابطًا مثلَهُ..
أراكَ تزورُ روضتَكَ (إيبلا)
وتُلقي السّلام على طفولتِكَ
وعلى لحظاتِ لعبِكَ فيها
أسمعُكَ تتحدّثُ، وتغنّي، وتصلّي بالسّريانيّةِ:
(بشيم آبو وا آبو روحو حاييو قاديشو)
أراكَ ما زلتَ تمرّ من أمام مدرستكَ (مار أفرام)
تلقي السّلامَ على لحظاتِ اجتهادكَ فيها
وعلى لحظاتِ الشّغبِ مع رفاقك
أسمعُكَ ترنّمُ في احتفالاتِ الميلادِ، والفصحِ
وتعايدُ معلّميكَ، ورفاقك مسرورًا:
(عيدو بريخو حوروني)..

آهٍ يا يوسفُ..
أنا ما زلتُ أذكرُ لحظةَ الوجعِ الأولى
هي كالحُبّ الأوّل لا تُنسى
تلكَ اللحظةُ الّتي رأيتُ فيها الحياةَ جائعةً
تقتاتُ بشراهةٍ من قلبي..
تلكَ اللحظةُ الّتي رأيتُ فيها الحياةَ
تمرُّ من أمامي بكعبِها العالي
وأنا أدوسُ أشواكَ القهرِ حافيةً من الفرحِ..
تلك اللحظةُ الّتي رأيتُ فيها الحياةَ عاهرةً
تُغلِّقُ الأبوابَ، وتقولُ لِصبري: هيتَ لكَ!
فيترفّعُ عن شهواتِها، ويصيرُ عزيزَ حِبرٍ
يحكمُ ممالكَ اللغةِ
ويجلسُ على عرشِ الإبداعِ

آهٍ يا يوسفُ..
أنا ما زلتُ أبدو قلعةً
لكنَّ حجارةَ قلبي تتضعضعُ!

من (رسائل إلى يوسف)

قد يعجبك ايضا