الإرث الاستعماري لفرنسا يعيد الجدل حول قضايا الهوية والهجرة والانقسام
وهج 24 : الاعتراف بالذنب والتعويض وإعادة الآثار المنهوبة – على مدار السنوات الماضية قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه مرارا على أنه راع لمعالجة الحقبة الاستعمارية لبلاده، وأكد على موقفه بإعلان عزمه إحياء الذكرى السنوية الستين لمذبحة باريس في 17 تشرين أول/أكتوبر 1961 والتي تم الصمت عليها طويلا. في المقابل تدور نقاشات محتدمة حول الهوية وحول مجتمع فرنسي مجزأ وهي آثار ما بعد الاستعمار التي لا يمكن معالجتها ببضع إشارات.
تحل الأحد المقبل الذكرى السنوية الستين لمذبحة باريس. قرب نهاية حرب الجزائر، التي كافحت فيها مستعمرة الجزائر الفرنسية من أجل الاستقلال خلال الفترة من عام 1954 حتى عام 1962، فرضت فرنسا حظر تجول على الفرنسيين المسلمين المنحدرين من الجزائر. وفي 17 تشرين أول/أكتوبر 1961 دعت هذه الفئة إلى مقاطعة في هيئة مظاهرات سلمية، والتي تم قمعها بشكل منهجي. وألقت الشرطة حينها القبض على حوالي 12 ألف جزائري، وضربت العديد منهم حتى الموت، وقتلت آخرين رميا بالرصاص. وتم العثور لاحقا على بعض الجثث في نهر السين. ولا يزال العدد الدقيق للضحايا غير معروف. وتشير التقديرات في بعض الأحيان إلى سقوط حوالي 200 ضحية. ويتحدث متحف تاريخ الهجرة في باريس عن أكثر عمليات القمع دموية في غرب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
ولفترة طويلة ظلت فرنسا صامتة بشأن ماضيها الاستعماري. ورغم توفر المعلومات، فإن التجاهل كان هو السائد، حسبما تقول المؤرخة مليكة رحال. وترى رحال أن النقاش حول هذا الأمر صار أكثر وضوحا اليوم، لكن المقاومة له صارت أقوى أيضا. يقول عالم الاجتماع أحمد بوبكر إن الحقبة الاستعمارية لا تزال تؤثر على مُجريات الأمور في فرنسا، على سبيل المثال فيما يتعلق بقضية الانتماء، وأضاف: “نحن بصدد تكوين رؤية عن المواطنة تقوم على أساس العرق والأصل الثقافي”، موضحا أن التعامل من منطلق المساواة لا يُطبق على بعض الفرنسيين، حيث يتم تصوير الأشخاص الذين لديهم تاريخ هجرة من فترة ما بعد الاستعمار بشكل متزايد على أنهم مختلفون ويتم التمييز ضدهم.
وبالنسبة لبوبكر تندمج هنا القضايا الاجتماعية مع قضايا ما بعد الاستعمار، وقال: “الناس الذين يعانون من أكثر الأوضاع خطورة هم أولئك الموجودون في الضواحي، وفي الضواحي يوجد في الغالب أناس لهم تاريخ هجرة من فترة ما بعد الاستعمار”. ويوضح بوبكر أن الكثير من الشباب هناك يواجهون صعوبات في التعلم، كما أنهم على هامش سوق العمل، ويتعرضون للعنصرية حتى في أوقات فراغهم. ويرى بوبكر أن عدم وجود حل لهذا الأمر حتى الآن يرجع أيضا إلى رفض التذكير بالحقبة الاستعمارية.
وفي الحملة التمهيدية للانتخابات الفرنسية الرئاسية المقررة في نيسان/أبريل المقبل، يُثار الآن مجددا موضوع آخر على نحو مكثف، ألا وهو الهجرة. تروج مارين لوبان، من حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، إلى إجراء استفتاء للحد من الهجرة. أيضا من المعسكر المحافظ، الذي يتصدره كزافييه برتراند وفاليري بيكريس وميشيل بارنييه، هناك مطالب بتطبيق نظام الحصص (الكوتة) ومنح مزيد من السيطرة للدولة. وعلى الضفة اليمينية المتطرفة ينافس الشعبوي، إريك زمور، لوبان في التصريحات حول طرد الأشخاص الذين لديهم تاريخ هجرة أو سن قانون يُلزم بأن يكون الاسم الأول للمواليد فرنسيا.
ويرى بوبكر أن الأمر لا يتعلق غالبا بالمهاجرين، بل بالفرنسيين الذين لديهم تاريخ هجرة. وبالنسبة لرحال، يعكس هذا الجدل التوق الجلي لإمبراطورية فرنسية قوية يغلب عليها البيض والمسيحيون. وترى رحال أن الجدل الحالي حول الهجرة متشابك للغاية مع السؤال حول موضع الماضي الاستعماري في فرنسا من المعالجة.
ويبدو أن ماكرون مهتم أيضا بهذا السؤال. ففي السنوات الأخيرة حاول مرارا بناء جسور مع الماضي الفرنسي والمستعمرات السابقة وأحفاد الأجيال التي عاشت الاستعمار. وخلال فترة رئاسته، صدرت تقارير عن دور فرنسا في الجزائر ورواندا، ووعدت الدولة بإعادة المقتنيات الثقافية المنهوبة، كما وعد ماكرون مؤخرا بتعويض المقاتلين الجزائريين السابقين الذين قاتلوا لصالح فرنسا.
ترى المؤرخة فلورنس بيرنو أن هناك إرادة صادقة في المعالجة لم تشهدها من قبل لدى أي رئيس دولة فرنسي آخر. لكنها ترصد أيضا اتجاها نحو استعمارية جديدة يتجلى في محاولات ماكرون للإشارة باستمرار إلى أن فرنسا هي دائما الفاعل الرئيسي، وأن إعادة هيكلة العلاقات مع المستعمرات السابقة ستعمل في النهاية على إضفاء شرعية على النفوذ الفرنسي هناك. وترى رحال أيضا أنه على الرغم من أن ماكرون قدم العديد من الإشارات التي طال انتظارها، فإن هذه الإشارات تتسم بالانتقائية وعدم المنهجية، وقالت: “إنها ليست سياسة، إنها استعراض”.
المصدر : (د ب أ)