“الرماديون” في حياتنا
محمود الدباس…
ترددت كثيرا في الخوض في هذا الامر.. الا ان ما حدثني به صديقي المتواجد في دولة اجنبية.. اثار شجوني للكتابة فيه.. فهم موجودون في الحياة السياسة والاقتصادية والاعلامية والاجتماعية..
فالاشخاص الرماديون اخذوا هذا اللقب من اللون الرمادي.. وحين نعلم ان اللون الرمادي (والذي لا يعتبر لونا اصيلا) هو ناتج عن مزج اللون الابيض النقي اللطيف الواضح الذي يمثل الخير والتسامح والحب والصفاء.. مع اللون الاسود القاتم الغامض الذي يمثل الكره والشر والحقد والفساد.. واللافت للنظر ان المزيج يجب ان يكون بنسب متساوية بين اللونين.. اي اذا زادت نسبة اي لون منهما ولو بشيء بسيط.. اقترب الناتج اليه وبدأ يطغى..
وبالعودة الى صديقي.. والذي تحدث اليّ عن تجربته بصداقة مع احد رجال الاعمال العرب في تلك الدولة.. قال بانه في لقاء عام تعرف على ذلك الشخص.. وتقربا من بعضهما بحكم العروبة.. ومن ضمن حديثهما ابدى صديقي امتعاضه من الالعاب العنيفة التي يتم عليها الرهان بمبالغ كبيرة.. فبادره ذلك الرجل بانه حتى يكره ان يسمع بها..
وفي احد الايام.. تفاجأ صديقي يان صديقه يعرض عليه شراء تذكرة حضور مبارة من الرياضات العنيفة.. وبرر شراءه للتذكرة بانها دعم للاعب عربي يخوض البطولة.. فما كان من صديقي الا ان اظهر عدم رضاه حتى وان كان هناك طرف عربي..
وبعد فترة.. تفاجأ صديقي بان صديقه رجل الاعمال.. اصبح راعيا للبطولة في تلك المدينة.. وحين واجهه بالامر وذكره بمبادئه.. رد عليه.. انا رجل اعمال.. وهذا من صلب عملي.. واسعى الى اي مكسب.. وفي النهاية انا لا احضر المباريات.. ولا اشارك بها.. والمكسب سينعكس على عملي في النهاية..
وتطور الامر الى ان اصبح هذا التاجر يحضر المباريات لتكريم اللاعبين.. الا انه يظهر في الصور برسميته وكشرته حتى يبدي للناس الذين يعرفون مبادئه -السابقة- بانه مجبر وغير راض.. ولولا طبيعة عمله لما قبل..
من هذه القصة.. اجد انه لا بد لي من التعريج على النظرة النفسية للرماديين.. فهم يمتازون بالانطوائية والغموض والحيادية والتردد والتناقض.. ولا يحبون المواجهة وتوجيه الانتقاد لهم حتى ولو بالدليل القاطع.. ويُوجِدون مبررات لتصرفاتهم.. حتى وإن كانت مبرراتهم هزيلة وواضحة التناقض..
ميزتهم انهم يمتلكون من الصفات المتناقضة الكثير.. فهم معتدلون مع المعتدلين.. ومتطرفون مع غيرهم.. يحبون الواسطة والنفوذ.. وينتقدونها لغيرهم.. يحبونك إن اثنيت عليهم وعلى افعالهم وسلوكياتهم.. حتى وان كانت خاطئة.. ويكرهونك ان واجهتهم بأخطائهم حتى وان كنت تريد من ذلك تصويب مسارهم.. واعادتهم الى مبادئهم.. وجلب الصلاح لهم.. وليس التجريح والتشهير بهم..
مشكلتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية وحتى العاطفية.. انهم يُتعِبون نفسيتهم ونفسية من يتعاملون.. فهم يريدون ان يظهروا بمظهر الخير والطيبة والتسامح والتواضع.. وعدم حب الشهرة.. والبعد عن المنكرات ومواطِن الشبهات والفساد.. وفي نفس الوقت لا يفوتون فرصة لتجربة الغلظة والتسلط.. والاقتراب من المنكرات.. والظهور تحت الاضواء.. حتى وان كان الثمن التنازل عن جزء من مبادئهم او كلها..
فالرماديون مكشوفين لمن اصلهم وصفاتهم البياض او السواد على حد سواء.. ولا يمكن الوثوق بهم من قِبل الجهتين.. لانهم يعلمون ان هؤلاء الرماديون يميلون الى الجهة التي تعطيهم مكاسب شخصية اكثر.. وتلبي رغباتهم ووصوليتهم وظهورهم.. فلن يترددوا في لبس عباءة التواضع والطيبة والخير والإيمان والطهر والوطنية والدفاع عن الحق والمبادئ السامية.. إن كانت ستوصلهم الى اهدافهم.. ولن يتركوا فرصة لخلع تلك العباءة وارتداء عباءة العهر والخيانة والنذالة والخسة.. لأوطانهم ولكل من هم حولهم.. إن كانت هي الملاذ الاسرع لنيل مرادهم.. او “التشعبط” على سلم الشهرة.. وارضاء شغفهم..
في الختام اقول.. لا تظنوا ان رماديتكم هي مسك للعصا من المنتصف.. بل هي التردد في تحديد المبدأ والوجهة والثوب الذي تريدون ارتدائه.. فلا تتعبوا انفسكم بالتواري خلف اللون الرمادي الذي لا يُعلم مبدأه ولا توجهه.. فإما ان تكونوا بياضا ناصعا نقيا واضح المعالم.. وإما سوادا قاتما لا لبس فيه.. وحينها ثقوا تماما سيحترمكم اصحاب اللونين لوضوحكم.. وعدم تلونكم كالحرباء..
ولنا في حديث الرسول عليه السلام افضل الدروس.. وأخذت منه (……فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ…….)..
محمود الدباس – ابو الليث..
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.