نبيه بري… المايسترو الهادئ في معادلة السياسة اللبنانية

غنى شريف  ….

 

في زمن تشهد فيه الساحة اللبنانية تجاذبات حادة، واستقطابات داخلية تستقوي بالخارج، يبرز اسم نبيه بري كـ”أساس” صلب في المعادلة الوطنية. رجلٌ لم يكتفِ بلعب دور الوسيط أو الضامن، بل تجاوز ذلك إلى الموقع الأهم: صانع التوازن وصاحب النفس الطويل في لعبة السياسة اللبنانية المعقدة.

فزيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني الأسبق، علي لاريجاني، إلى بيروت مؤخرًا، لم تكن وليدة لحظة سياسية عابرة، ولم تكن — كما حاول البعض تصويرها — بدفع من حزب الله، بل جاءت بدعوة مباشرة من الرئيس نبيه بري، الذي عرف كيف يُحسن استخدام اللحظة السياسية لإيصال رسالة مزدوجة: داخلية وخارجية.

منذ سنوات، يحاول الرئيس بري أن يُبقي شعرة التواصل قائمة مع مختلف مكونات الوطن، محاولًا تجنيب البلاد الانزلاق نحو مزيد من الانقسام أو الصدام. وقدّم في سبيل ذلك تنازلات سياسية، وفتح أبواب الحوار مرارًا، في وقت كان فيه البعض يستسهل لغة التحدي، أو يحاول فرض الوقائع بقوة السلاح أو بدعم الخارج.

لكن بري، الذي لا يُجيد سوى لعبة السياسة بالعقل والميزان، فهم باكرًا أن بعض الشركاء لم يعودوا شركاء حوار، بل رهائن لمحاور إقليمية تراهن على كسر التوازن الوطني، وإضعاف طرف أساسي في المعادلة اللبنانية. عندها، لم يُقابل التصعيد بتصعيد، بل قرأ اللحظة بدقة، ولعب ورقته بهدوء: استحضر الحليف الإقليمي، ليس للتهديد، بل للتذكير أن ميزان القوى لا يميل في اتجاه واحد.

كان مشهد استقبال لاريجاني في مطار بيروت، وحديثه عن “شكره لصديقه ورئيسه نبيه بري”، بمثابة صفعة سياسية ناعمة، ورسالة مباشرة إلى كل من يظن أن الحلفاء الاستراتيجيين للرئيس بري ومحور المقاومة قد تراجعوا أو غابوا عن المشهد.

أما إيران، التي لطالما اعتُبرت خصمًا في عيون بعض الداخل، فقد باتت اليوم قوة إقليمية تفرض احترامها حتى على خصومها. وخير دليل على ذلك ما جرى مؤخرًا من مواجهة مباشرة مع إسرائيل، كانت نتيجتها ردعًا واضحًا، أعاد ترتيب أوراق الصراع في المنطقة.

ولاريجاني، المبعوث الخاص للمرشد الأعلى علي خامنئي، ليس زائرًا بروتوكوليًا. بل هو حامل لرسائل استراتيجية، مفادها أن إيران باقية في المعادلة، داعمة للمقاومة في لبنان، وللحشد الشعبي في العراق، ولموقع سوريا في محور لم ينكسر رغم كل الضغوط.

لقد أتقن نبيه بري فن اللعب على حافة التوازنات، دون أن يسقط. رفض الاستقواء بالسلاح، لكنه لم يسمح بأن يُفرض عليه ما يخالف قناعاته الوطنية. لم يغامر بالبلاد في نزاعات مدمّرة، لكنه لم يقبل أن يكون شاهد زور على محاولات عزل فريق أساسي من أبناء الوطن.

بري، الذي خَبِر السياسة اللبنانية بكل دهاليزها، اختار أن يردّ على التهويل السياسي بالسلاح، بسلاح السياسة الهادئة، لكنه الفعالة. فحين ينفد الكلام، وحين يُغلق باب التفاهم، لا بد من خطوة تُعيد التوازن. وهنا كان ذكاء الرجل، أن يعرف متى يفتح الباب للحوار، ومتى يرسل الإشارات الواضحة.

في النهاية، قد لا يعجب البعض هذا الأداء الهادئ، لكنه دون شك أداء رجل دولة. رجل يدرك أن الصراخ لا يصنع سياسة، وأن المواجهة الذكية أقوى من ضجيج السلاح. ولذلك سيبقى نبيه بري “الأساس” في معادلة الداخل، و”الحلقة الرابطة” مع الخارج… حين تختلط الأوراق، ويبحث الجميع عن الثابت.

الكاتبة من  لبنان

قد يعجبك ايضا