فادي السمردلي يكتب: صطيف باب الحارة مرآة الجبن المقنّع

بقلم فادي زواد السمردلي ….

 

*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*

👈 *المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود.*👉

حينما ظهر صطيف في مسلسل باب الحارة، لم يبدُ كأحد الأبطال ولا حتى كخصمٍ جريء، بل كصورة مكثفة للجبن الذي يرتدي قناع البراءة والضعف فلم يكن الرجل يمتلك أدنى شجاعة ليقف أمام الآخرين أو يواجههم بما يفعل، وإنما وجد في تمثيل دور الأعمى فرصة ذهبية يختبئ خلفها من كل خطر محتمل فالأعمى في الوعي الجمعي عادةً ما يُقابل بالعطف والتقدير، غير أن صطيف شوّه هذه الصورة حين جعلها وسيلة حماية شخصية، يراوغ من خلالها ويتجنب أي مساءلة فلقد عاش على هذا القناع أكثر مما عاش على ذاته، واستمد من الشفقة درعًا، ومن الوهم حصنًا يحول بينه وبين مواجهة الواقع.

ما يلفت الانتباه في شخصية صطيف ليس فقط كونه جبانًا، بل طريقة ممارسته لهذا الجبن فلم يكن يواجه الآخرين بالحقائق أو يقف صريحًا في أي موقف، وإنما كان دائم التراجع، حذرًا إلى حد المبالغة، لا يتحرك إلا حين يضمن أن الأرض تحت قدميه خالية من أي تهديد فهذ االحذر جعل جبنه مركّبًا، فهو لم يكن ضعيفًا بشكل ظاهر، بل متخفيًا بذكاء مريض، يستغل غفلة الآخرين ليؤمّن نفسه، ويستثمر في الشفقة ليبعد عنه أي شك أو محاسبة فهذا النموذج الذي لا يغامر، لا يشارك في صدام، ولا يتحمّل ثمن ما يقول أو يفعل، إنما يتخذ أقصر الطرق التي تضمن له النجاة ولو على حساب كرامته.

هذا النموذج ليس حكرًا على الدراما، بل له نسخ متكررة في واقعنا اليومي، فهناك أشخاص يشبهون صطيف في سلوكهم أكثر مما يتصورون فلا يتخذون قرارًا إلا بعد أن يتأكدوا أن الموج قد هدأ، ولا يرفعون أصواتهم إلا بعد أن يتيقنوا أن الصوت لن يعرّضهم لأي تبعات فيظهرون دومًا في صورة الحذرين، لكن حذرهم ليس حكمة، بل خوف مقنّع يُغلّفه العقلنة والتبرير وفي الاجتماعات أو النقاشات أو حتى عند اتخاذ قرارات مصيرية، يفضلون التواري خلف الآراء العامة، لا يقولون ما عندهم إلا حين يتأكدون أن التيار جارٍ في نفس الاتجاه فلا يسيرون في المقدمة، ولا يثبتون أقدامهم في منتصف الطريق، بل يكتفون بالوقوف في الصفوف الخلفية، يراقبون كيف تنقلب الموازين، ثم يختارون أين يقفون حين يكون كل شيء قد حُسم بالفعل.

إن أخطر ما في هذا السلوك أنه يخلق داخل المنظومات فراغًا قيميًا فحين يمتلئ الوسط بأشخاص يتقنون فن التواري والنجاة الفردية، يصبح الجو العام خانقًا والأصوات الحقيقية تتضاءل، والمواقف الصريحة تبهت، ويحل مكانها طيفٌ من الوجوه التي لا تقول شيئًا ولا تفعل شيئًا، لكنها موجودة لتُكمل العدد.فهؤلاء الأشخاص يحمون أنفسهم دومًا، لكنهم لا يحمون الفكرة، ولا يدافعون عن المبدأ، ولا يقفون إلى جانب الحق حين يُهدد فوجودهم السلبي يجعلهم بمثابة فراغ متحرك، أو ظلٍّ طويل يتقدم حين يختفي الضوء، ويتلاشى حين يشتد سطوعه.

ولو تأملنا أكثر، لوجدنا أن ظاهرة “صطيف الواقع” ليست مجرد مشكلة فردية، بل انعكاس لثقافة أوسع فثقافة تقدّم السلامة على الجرأة، وتكافئ المتواري أكثر مما تكافئ الجريء فالمنظومة التي تسمح بانتشار هذا النوع من الشخصيات هي منظومة تؤسس للركود واللاموقف ومع مرور الوقت، تصبح هذه الوجوه المتخفية هي القاعدة، بينما يُنظر إلى من يتجرأ على قول كلمة واضحة أو اتخاذ قرار مباشر كأنه خارج السياق أو متهور وهكذا يتحول الحذر الزائد إلى مرض جماعي، وينتشر الجبن المقنّع كقيمة عملية مقبولة، مع أنه في جوهره إعاقة كبرى لأي تطور أو نهضة حقيقية.

إن صطيف، رغم أنه شخصية درامية، يقدم درسًا عميقًا فالجبن ليس مجرد خوف من المواجهة، بل هو منظومة متكاملة من الأقنعة، والادعاءات، والتبريرات وهو حين يتجسد في أشخاص داخل أي بنية اجتماعية أو مؤسسية، فإنه لا يكون مجرد عيب فردي، بل خطر حقيقي على الحيوية العامة فهؤلاء الأشخاص الذين يختارون التستر خلف الضعف، ويجعلون من الحذر فلسفة، ويبحثون دومًا عن النجاة الفردية على حساب الموقف، هم النسخ الواقعية من صطيف ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هل نريد أن نملأ حياتنا بمثل هذه النسخ، أم آن الأوان لأن نعيد الاعتبار لقيمة الجرأة والقدرة على المواجهة؟

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا