*غزة.. قرن من الثورات والدم والجهاد والمقاومة من الانتداب البريطاني إلى طوفان الأقصى*

د.احمد العرامي  ….

 

منذ أن احتلت بريطانيا غزة عام 1917 عقب انهيار الدولة العثمانية، دخلت هذه البقعة الصغيرة من فلسطين في جولات لا تنتهي من الاحتلال والجهاد والمقاومة. فمنذ وعد بلفور الذي مهد لزرع المشروع الصهيوني في فلسطين، كانت غزة دائمًا شرارة متقدمة في كل مواجهة، وساحة متجددة للتحدي والصمود.

مع فرض الانتداب البريطاني، بدأت نُذر الغليان الشعبي تتصاعد ضد سياسات التهجير والاستيطان. وفي عام 1929 شهدت فلسطين أولى موجات الثورة التي امتدت إلى غزة، وأسست لوعي وطني متنامٍ تحوّل لاحقًا إلى ثورة شاملة في عام 1936، حين اندلع الإضراب العام الذي استمر أكثر من ستة أشهر وتحوّل إلى مواجهة مسلحة ضد قوات الاحتلال البريطاني. كانت تلك الثورة بمثابة اللبنة الأولى للمقاومة الفلسطينية المنظمة، لكنها قُمعت بعنف، مما أدى إلى تفكيك البنية القيادية الوطنية.

جاءت نكبة 1948 لتضع غزة أمام واقع جديد؛ إذ تحولت إلى ملاذ لعشرات الآلاف من اللاجئين المطرودين من مدنهم وقراهم، لتصبح المخيمات رمزًا دائمًا للتهجير والحنين الممنوع. خضعت غزة للإدارة المصرية حتى العدوان الثلاثي عام 1956، ثم عادت إلى السيطرة المصرية حتى نكسة 1967، حين سقطت في قبضة العدو، ودخلت مرحلة جديدة من المعاناة اليومية والمقاومة المستمرة.

في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، أخذت المقاومة الفلسطينية طابعًا منظمًا عبر ظهور الحركات السياسية والمسلحة، فكانت المساجد والمخيمات بؤر التعبئة الشعبية ضد الاحتلال. وفي ديسمبر 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى من قلب جباليا، لتنتشر في كل فلسطين، حيث واجه الفلسطينيون بصدورهم العارية جيوشة الاحتلال المدججة بالسلاح. شكّلت تلك الانتفاضة تحوّلًا عميقًا في مسار القضية الفلسطينية وأجبرت العدو على الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني كمحاور سياسي، توقيع اتفاقية أوسلو عام1993 أفرغت الانتفاضة من محتواها

وبعد أوسلو، استمر الاحتلال وتوسّع الاستيطان. ومع فشل مسار التسوية، اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000، التي اتخذت طابعًا مسلحًا. كانت غزة مرة أخرى في واجهة المواجهة، تدفع ثمن المقاومة والحصار معًا.

في عام 2005 انسحب العدو الإسرائيلي من قطاع غزة، لكن الحصار اشتد بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، ثم سيطرتها الكاملة على القطاع عام 2007. ومنذ ذلك العام، تحوّلت غزة إلى ساحة متكررة للعدوان : 2008، 2012، 2014، 2021، وكلها حملت أسماء مختلفة ونتائج واحدة—دمار شامل، آلاف الضحايا، وحصار خانق.

وفي السابع من أكتوبر 2023، دوّت صرخة جديدة من غزة حملت اسم “طوفان الأقصى”، حين شنت المقاومة هجومًا واسعًا داخل الأراضي المحتلة. جاء رد العدو أعنف من أي وقت مضى، ليتحوّل القطاع إلى أنقاض فوق رؤوس سكانه، في واحدة من أكثر الحملات دموية في تاريخ الصراع.

ورغم مرور أكثر من قرن على الاحتلال الأول، لا تزال غزة تُجسّد جوهر القضية الفلسطينية: شعب يرفض الخضوع، وأرض تُقاوم الحصار، وذاكرة مثقلة بالثورات والدموع. كل موجة جهاد في غزة ليست إلا فصلًا جديدًا من حكايةٍ طويلة عنوانها الصمود، وجوهرها أن هذه الأرض لا تُروَّض، مهما طال الزمن أو اشتد الحصار.

الكاتب من اليمن

قد يعجبك ايضا