”كثر شاكوكم وقل شاكروكم”
بقلم العميد المتقاعد هاشم المجالي ……………..
ما أثقل المناصب حين تُحمَل بغير استحقاق، وما أتعس الدولة حين تُدار بالمجاملة لا بالكفاءة، وبالقرب لا بالقدرة. إن المناصب العامة أمانات، فإذا أُعطيت لغير أهلها تحولت من نعمة إلى نقمة، ومن خدمةٍ للناس إلى سيفٍ مسلطٍ على رقابهم.
أذكر – وما زالت الذكرى ساخنة في الوجدان – أننا في تسعينات القرن الماضي، حين كنا نعمل في جهاز الأمن العام، شهدنا تعيين ضابطٍ في موقعٍ بالغ الحساسية، لا تؤهله رتبته ولا خبرته ولا طبيعته لإدارته. وما إن جلس على كرسيه حتى بدأت الشكاوى تتقاطر كالمطر، من مراجعين أنهكتهم المعاملة، ومن موظفين ضاقت بهم السبل. لكن تلك الشكاوى كانت تموت في الممرات قبل أن تبلغ مكتب المدير، لأن يد الحماية كانت أعلى من صوت الحق.
حتى بلغ السيل الزبى، وصار الحديث يتردد في المجالس، ويُنشر في الصحف، ويصل إلى المدير العام من أفواه لا تُغلق. عندها فقط، كتب المدير العام كتابًا سريًا، لكنه كان في معناه أبلغ من الخطب، وأصدق من التقارير، عنونه بعبارة تختصر فلسفة الإدارة كلها:
«كثر شاكوك وقل شاكروك».
ثم أُزيح الرجل إلى موقعٍ يليق بقدره، لا بواسطته.
وهنا، لا بد أن نقف طويلًا أمام مشهدٍ يتكرر اليوم في وزاراتٍ ومؤسساتٍ عدة، حيث يُنقل بعض موظفي الديوان الملكي إلى مواقع قيادية لا لشيءٍ إلا لأن دولة الرئيس كان يومًا هناك، فيصطحب معه من كان بقربه، لا من كان أهلًا للمسؤولية. فيتحول الوزير أو المدير إلى ظلٍّ محصن، لا يُسأل ولا يُحاسَب، ويصبح الموظفون من تحته أسرى الصمت، مكبّلين بالخوف، كأنهم يمشون على حد السكين، لا يملكون شكوى، ولا يجرؤون على اعتراض.
وهكذا، تُقتل الكلمة الصادقة في صدر صاحبها، ويُدفن الحق حيًا، لا لأن الباطل قوي، بل لأن الخوف أضعف القلوب. ويصير الموظف مظلومًا، والمراجع منهكًا، والمؤسسة مشلولة، لا تتقدم خطوة، ولا تعترف بخطأ.
تعالوا نفتح دفاتر هذه الوزارات، وزارة الاستثمار، وزارة البيئة، وغيرها، لا بعين الخصومة بل بميزان العدل:
ماذا قدمتم للوطن؟
ماذا أنجزتم للمواطن؟
أين الأثر؟ أين الرضا؟ أين الشكر؟
إن كثرة الشكاوى ليست مؤامرة، وقلّة الشاكرين ليست صدفة. إنها شهادة صادقة لا تحتاج إلى توقيع. وكما قيل يومًا لضابطٍ في موقعٍ حساس، تُقال اليوم لمسؤولين في مواقع أكبر:
لقد كثر شاكوكم، وقل شاكروكم… وتلك أقسى محاكمة.
الكاتب من الأردن