فادي السمردلي يكتب: اقتراض الحكومة من الضمان الاجتماعي قراءة مالية في اختلال الأولويات

بقلم فادي زواد السمردلي  …..

 

*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*

 

كشف تقرير ديوان المحاسبة الأخير عن ارتفاع مقلق في حجم اقتراض الحكومة من أموال صندوق استثمار الضمان الاجتماعي، إذ ارتفع رصيد الدين الداخلي المستحق للحكومة لصالح الصندوق خلال عام واحد فقط بأكثر من مليار دينار أردني، ليصل إلى نحو 9.18 مليار دينار، وهو ما يشكّل قرابة 44% من إجمالي الدين الداخلي للحكومة المركزية ومع إضافة المديونية المترتبة على جهات ومؤسسات عامة أخرى، يقترب إجمالي الدين لصالح الضمان الاجتماعي من 9.5 مليار دينار. هذه الأرقام، التي وردت بشكل واضح في التقرير الرقابي، لا تعبّر فقط عن زيادة رقمية في الدين، بل تعكس تحولًا هيكليًا في نمط التمويل الحكومي، يستدعي قراءة اقتصادية معمقة تتجاوز حدود الأرقام إلى آثارها بعيدة المدى.

يشير التقرير بوضوح إلى تصاعد اعتماد الحكومة على أموال الضمان الاجتماعي كمصدر رئيسي للاقتراض الداخلي، وهو ما يفتح الباب أمام نقاش اقتصادي ومالي عميق حول أولويات السياسة المالية وحدود استخدام أموال المؤمن عليهم ومدى انسجام هذا التوجه مع متطلبات الاستدامة المالية فديوان المحاسبة، من خلال رصده لتنامي هذه المديونية، يسلّط الضوء على مسار مالي بات يتكرر ويترسخ عامًا بعد عام، بدل أن يبقى إجراءً استثنائيًا مرتبطًا بظروف مؤقتة.

من الناحية المالية، قد يبدو هذا الخيار مريحًا للحكومة، إذ يوفّر مصدر تمويل محليًا مستقرًا وبكلفة أقل نسبيًا من الاقتراض الخارجي، كما يخفف الضغوط الآنية على الموازنة العامة غير أن هذا الارتياح قصير الأجل يخفي في طياته اختلالًا في ترتيب الأولويات، حيث يجري التعامل مع أموال الضمان الاجتماعي بوصفها موردًا متاحًا لسد فجوات التمويل، لا بوصفها التزامًا طويل الأمد تجاه مئات الآلاف من المشتركين والمتقاعدين الحاليين والمستقبليين.

ويبيّن تقرير ديوان المحاسبة أن هذا الاقتراض لم يعد محصورًا بالحكومة المركزية، بل امتد ليشمل جهات ومؤسسات عامة أخرى، ما يعكس ضعفًا في الانضباط المالي للقطاع العام ككل فبدل معالجة العجز من جذوره عبر إصلاحات هيكلية حقيقية، سواء على مستوى الإيرادات أو كفاءة الإنفاق، يجري اللجوء إلى أموال الضمان كحل تمويلي أقل كلفة سياسيًا على المدى القصير، لكنه أكثر كلفة اقتصاديًا واجتماعيًا على المدى الطويل.

اقتصاديًا، تكمن إحدى الإشكاليات الأساسية في مسألة تركّز المخاطر فحين تُوظَّف نسبة كبيرة من أموال الضمان الاجتماعي في أدوات دين حكومية، يصبح الصندوق أكثر ارتباطًا بالوضع المالي للدولة صحيح أن الدين السيادي يُعد من أقل أنواع الدين مخاطرة من حيث احتمالات التعثر، لكن الخطر هنا لا يتعلق فقط بإمكانية السداد، بل بقدرة هذه الاستثمارات على تحقيق عوائد كافية ومستدامة في المستقبل فالعوائد المحدودة على السندات الحكومية قد لا تكون كافية لمواجهة التزامات متزايدة، خاصة في ظل التغيرات الديموغرافية وارتفاع أعداد المتقاعدين مقارنة بنمو قاعدة المشتركين.

إلى جانب ذلك، فإن توجيه مليارات الدنانير نحو تمويل العجز العام يحمل تكلفة فرصة بديلة واضحة فهذه الأموال كان يمكن أن تُستثمر في مشاريع إنتاجية أو شراكات استراتيجية قادرة على تحقيق عوائد أعلى والمساهمة في تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الكلي وعلى استدامة الضمان الاجتماعي ذاته فاستمرار حبس هذه الموارد في دين حكومي منخفض العائد يعني عمليًا تأجيل الاستفادة من هذه الفرص وتحميل الصندوق أعباء إضافية في المستقبل.

القلق الذي يعبّر عنه تقرير ديوان المحاسبة لا يرتبط بالحاضر فقط، بل بالمآلات المستقبلية لهذا النهج. فالضمان الاجتماعي لا يزال اليوم قادرًا على الإيفاء بالتزاماته، إلا أن استمرار هذا المسار دون سقوف واضحة أو خطة زمنية لسداد المديونية قد يضعف قدرة الصندوق على التعامل مع الضغوط المتوقعة خلال السنوات المقبلة ومع غياب رؤية معلنة لإعادة التوازن لمحفظة استثمارات الضمان وتقليل الاعتماد على الدين الحكومي، تتزايد المخاوف من أن تتحول هذه العلاقة إلى عبىء متبادل يقيّد خيارات الدولة والصندوق معًا.

في المحصلة، لا يمكن النظر إلى اقتراض الحكومة من أموال الضمان الاجتماعي بوصفه إجراءً ماليًا محايدًا. إنه خيار يعكس خللًا في أولويات إدارة المالية العامة، وينطوي على نقل غير مباشر لكلفة تأجيل الإصلاحات إلى الأجيال القادمة فتقرير ديوان المحاسبة جاء ليضع هذه الحقيقة تحت الضوء، مذكّرًا بأن أموال الضمان الاجتماعي ليست أداة لمعالجة اختلالات آنية، بل ركيزة أساسية للأمن الاجتماعي والاقتصادي، وأن حمايتها تتطلب إعادة نظر جادة في هذا النهج قبل أن تتحول المخاطر الكامنة فيه إلى واقع يصعب تداركه.

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا