د. حميد لشهب: الذئاب السياسية من منظور سبيلا

د. حميد لشهب
تتواتر الأحداث، وتمشي بسرعة في عالمنا السياسي المغربي الحالي، ويبدو وكأن هناك زلازل سياسية تحدث على أكثر من مستوى. ولعل ما يهمنا هنا هي التطورات الأخيرة، بكل ما تحمله من تداعيات على الأحزاب وعلى قائديها والعاملين فيها. فالرقصات البهلوانية لشباط، الذي يضاعف تلقي الضربات، ويوجد في موقع لا يُحسد عليه، إلى درجة أنه “اضطر” إلى كشف الحسابات البنكية “للإمبراطورية الشباطية”؛ وكأن السياسي المغربي يضع″نقوده” في الأبناك، ما هي في العمق إلا نموذجا “لمكر التاريخ”، كما يقول الأستاذ محمد سبيلا في كتابه: “في تحولات المجتمع المغربي”، الصادر عام 2010 عن دار توبقال المغربية.
يخصص هذا المفكر العربي الفذ نصا كاملا في كتابه الآنف الذكر بعنوان: “مكر التاريخ أم مكر البشر؟” لطرح مجموعة من التساؤلات العميقة، تنطبق على ما يروج حاليا عند ساستنا. تورع سبيلا على تقديم أجوبة، وكأن لسان حاله يقول بأنه كمثقف وفيلسوف لا يهتم بالجواب -المعروف مبدئيا عند العامة والخاصة-، بقدر ما يهمه إيقاظ الوعي العام وتنبيهه إلى الحالة الكارثية التي وصلت إليه الممارسة الساسية في البلاد، في غياب المثقف عن هذا الحقل، وتسائله عن هذا الغياب: “أهو احتجاج أخلاقي على رداءة وانتهازية ومركانتيلية الممارسة السياسية التي حولت السياسة إلى مجرد صراع وحرب لا تبقي ولا تذر على المناصب والمكاسب والمواقع، وحولت ما يسمى بالممارسة الديمقراطية إلى سوق يتم فيه شراء المقاعد وبيع الأصوات وإفساح المجال أمام أشكال غريبة من المافيوزية السياسية؟” (ص 141). وعندما يتجرأ مثقف ما على فضح سلوك سياسي “مافيوزي” ما، فإن هذا الأخير “يقاومه” بأسلوب يُثبت بالفعل بأنه “مفيوزيا” بالفعل، أي يلتجأ إلى إلصاق تهمة “القلم الأجير” لهذا المثقف، حتى وإن كان هذا أدلى بشهادته في مناقشة تلفزية.
الواقع أن نص سبيل الآنف الذكر هو تشخيص مرن وعميق، للعبة السياسية في المغرب المعاصر، وهو تشخيص خال من أية لباقة “ديبلوماسية”، وكأن هذا المفكر العظيم فقد كل أمل في أحزابنا السياسية: “لماذا وكيف تحولت الأحزاب من مدارس سياسية يفترض أن تشكل إطارا نموذجيا للتربية السياسية للمواطنة إلى مقاولات سياسية، وتحولت الممارسة السياسية إلى ممارسة سياسوية احترافية ضمن كتل وجماعات ضغط؟” (ص 141). ويصدق هذا التشخيص، في نظرنا، على كل الأحزاب دون استثناء؛ ما دامت الحدود بين “اليسار” و”اليمين” قد اختفت، وما دام العدد الهائل لأحزاب اليمين نفسها لا يعبر بالضرورة على وضع ديمقراطي صحي، بقدر ما يبرهن بأن هذه الأحزاب مُقادة من طرف “ربابنة” لا يبحثون عن شواطئ نجاة للشعب، بل -وكما يقول الفيلسوف سبيلا: – “أصبحت الممارسة السياسية في الكثير من الأحيان مشروعا تجاريا للكسب والإغتناء ولحماية المصالح الخاصة وصونها من سلطة الدولة القانونية، أو وسيلة للإرتقاء الإجتماعي في أحسن الأحوال” (ص 142). بل لا يمكن والحالة هذه أن تكون هذه الأحزاب ضامنة وخادمة للمسار الديمقراطي المأمول في المغرب، ما دامت لا تكتفي بالصراع مع أحزاب أخرى، بل “تتقاتل” داخليا فيما بينها على المناصب والمواقع في الحزب الواحد فـ: “كيف تريد هذه الأحزاب إرساء الديمقراطية في المجتمع الكبير وهي عاجزة على تطبيقها والتمرن عليها في بيتها الحزبي الصغير وهل فاقد الشيء يعطيه؟”ص 142).
لا داعي للتذكير بأن سبيلا، كمفكر حداثي نقدي، مؤمن بنوع من خيرة البشر المبدئية، لا يغيب عن ذهنه أيضا شرهم، وبالخصوص في الميدان السياسي. ولعل مقولة هوبز تنطبق على ساسة المغرب في أيامنا هذه، وهو استنتاج توصل إليه سبيلا أيضا عندما قال: “فإذا بالمناضل الذي كنا نتصوره ملاكا أصبح عبارة عن ذئب سياسي نهم للسلطة، متعطش للمال والإمتيازات والأملاك الكبيرة والضيعات الشاسعة، وفي سبيل ذلك فهو لا يتورع عن الكذب والتآمر والكيد ونصب الفخاخ للآخرين بمن فيهم رفاق درب النضال” (ص 144).
فالإتهامات المتبادلة بين بعض السياسيين المغاربة بالإغتناء الغير المشروع هو في العمق تعبير واضح المعالم على أنهم يسبحون كلهم في أتون هذا الفهم الآتن لأهداف الإشتغال بالسياسية. نتحدى كل سياسي مغربي، يتحمل مسؤولية أو وظيفة سامية في حزب ما، ولم يكن معروفا عنه بأنه كان ثريا قبل دخوله معمعة السياسية، وأصبح كذلك – يعني ثريا- وهو في معمعتها أن يبرهن بأن ما جمعه من ثروة هو نتاج شغل “حلال”، وبأنه لم يصل إليه بطرق غير مشروعة. عجب العجاب هو أن من يغتني عن طريق السياسة، يعتبر الشعب نعاشا وخرافا، وهو الذئب الذكي، الذي ينجح كل مرة في خطف الخروف من أمه وهي تشاهد بأم عينيها، فتكه بصغيرها (وطننا). والحقيقة أننا نعاشا في المغرب، ما دمنا في بداية القرن الواحد والعشرين نتفرج في هدوء وبهدوء على فتك أمثال شباط وأخنوش واللائحة طويلة بوطننا، وكل ما نحسن القيام به هو “تسجيل المخالفة”، دون أية ردود فعل حازمة ضد الناهبين، سواء للمال العام أو لجيوب الشعب بطرق أكثر قذارة ووساخة. فعلى الرغم من أن أدبياتنا السياسية تتغنى بمقولة: “من أين لك هذا؟”، إلا أن الشعب لم يرق بعد إلى مستوى المحاسبة القانونية المباشرة للفاعلين، لأننا شعب “رحيم” بذئابنا، وهي رحمة نابعة من جهة من خوفنا منها، ومن جهة أخرى من أملنا أن نتقرب منها يوما، لتحيطنا عناية، ولربما تتركنا نذوق من فتات الكعك السياسي.
أعتقد جازما بأن الوقت قد حان ، لكي يطالب الشعب (أفرادا وجماعات) علنا، في مظاهرات شعبية حاشدة السلطات القائمة أن تعمل ما في وسعها للكشف عن مصدر ثروات ساستنا، وتطبق القانون في حقهم إن اتضح بأنها ثروات مجموعة بطرق غير قانونية، وترجع هذه الثروات لخزينة الدولة ويطبق القانون على هؤلاء الساسة، تماما كما يطبق على من “يسرق رغيفا” لأنه جائع. حان الوقت إذن للقبض على الذئب بيننا، وعدم ائتمانه، لنخرج بهذا من وضعنا كنعاج إلى وضع الواعين بمسؤوليتهم اتجاه وطنهم، والمجيبين على الأسئلة المقلقة للفيلسوف سبيلا. وإذا نجحنا في هذا كشعب، فإننا سننجح في بناء أنفسنا ووطننا على أسس “العقد الإجتماعي” الديمقراطي العادل، وليس على أسس: “ومن بعدي الطوفان”.
النمسا

قد يعجبك ايضا