الصمود وحده لا يكفي
بلال فضل
لماذا لا يفكر المقاومون في بلادنا في ما يمكن لهم ويجب عليهم فعله بعد النصر؟ ألا يمكن أن يغير ذلك من طريقتهم في المقاومة ويجعلها أكثر فاعلية؟ ولماذا يرضينا الإصرار والصمود فقط دون التفكير في خطوات تالية؟ أسئلة يطرحها المفكر الفلسطيني الفذ إدوارد سعيد وهو يتأمل كيف يفضل الفلسطينيون، منذ سنوات النكبة، فكرة البقاء في مكان واحد «خشية أن نفقد ما لدينا»، ومع أنهم نجحوا بشكل مشرف في تحقيق وعي وطني فلسطيني، لكنهم لم يتمكنوا من إيجاد آلية أو سياسة «لتحويل الطرد إلى عودة، لتحويل الهزيمة والخسارة إلى ما يشبه نصراً حقيقياً».
يطرح إدوارد سعيد أسئلته الداعية للتفكير والمراجعة، في كتاب «السلطة والسياسة والثقافة» الذي يضم أهم حواراته التي أجراها في الأعوام ما بين 1976 و2000، مضيفاً أسئلة ستجدها متعلقة بكل حركات الإصلاح والتغيير في أوطاننا المنكوبة: «لماذا لا نستطيع التفكير جماعيا بالطريقة ذاتها التي يفكر فيها رجل أعمال فلسطيني ناجح، فهو يؤسس شركة ويجني ثمار الربح ويؤسس شيئاً ليدوم، أو أن نفعل ما يفعله المثقف الفلسطيني عندما يدرس موضوعاً وينتج كتاباً مهماً، هذا أمر يمكن استصلاحه وتجسيده، أما على المستوى الوطني فجميع مؤسساتنا، بلا استثناء تقريبا، تعيش حوالي عشر سنوات، ثم تموت ويبدأ كل شيء من جديد، نعيد اكتشاف العجلة ونبدأ من الصفر»، ثم يتحدث عن علم التفاصيل الذي يتوافر في حياة الكثيرين منا على المستوى الشخصي لكننا نفتقده على الصعيد الجماعي، وهو ما يراه مهماً في تفسير شيوع الانهزامية السلبية التي سادت لدى الكثيرين بعد اتفاقيات أوسلو، ودفعتهم للقبول بأن كل ما سيحصلون عليه من إسرائيل، هو فقط ما ستعطيه لهم إسرائيل.
«لماذا؟ ماذا حدث لإرادتنا؟ ماذا حدث لأهدافنا؟ لماذا ليست أبداً جزءاً من المعادلة»، يسأل إدوارد في حوار نشر سنة 95 في مجلة «دراسات فلسطينية»، روى فيه بعض تفاصيل ذهابه في عام 91 إلى جنوب إفريقيا بعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا بقليل، ليكون الفلسطيني الأول الذي يذهب إلى هناك، ويلتقي بمانديلا ووالتر سيسولو ويسألهما: كيف حدث هذا وقد كنتما إرهابيين ومنفيين وسجينين؟ فتكون إجابتهما: «أولاً لم نتخل أبداً عن مبادئنا، لم نغير ما نحارب من أجله. ثانياً ركزنا على البعد الدولي، لأن نجاحنا الدولي في إعلان نظام الفصل العنصري نظاما غير شرعي أعطى الناس في الداخل الأمل من أجل متابعة النضال». يعلق إدوارد بحزن مقارناً ذلك الموقف بما يجري على الساحة الفلسطينية: «في المقابل نحن الآن لا شيء سوى مهزلة دولية، ما شعور الفلسطينيين عندما يرون عرفات يتبختر وكأنه يقود شيئا ما، بينما هو يعمل تحت إبهام السلطات العسكرية الإسرائيلية، نحن في حاجة إلى تغيير نوعي للوعي، حيث نتحرك من مجرد محاولة البقاء إلى محاولة التحرر والتحرك والانتصار. أعتقد أن هذا هو ما فشل جيلي في فعله. لقد كانوا في جنوب إفريقيا غاية في الصلابة من الناحية الأستراتيجية، وغايةً في المرونة من الناحية التكتيكية، نحن عكسهم تماماً».
في أحد حواراته يورد إدوارد سعيد مقتطفاً مهماً يتحدث فيه الصحافي ليون ويزلتيير عن النفوذ اليهودي في أمريكا، مؤكداً أنه إذا كان الصوت اليهودي أصبح مسموعاً هناك، فليس لأن اليهود جاؤوا إلى بلد يتميز بالترحيب الجذري تجاههم، فمعاداة السامية والكراهية التي واجهها اليهود حين جاؤوا إلى أمريكا لا تقل بالتأكيد عن معاداة الإسلام الموجودة حالياً، «لكن ما فعله اليهود هو أنهم نظموا أنفسهم فكريا وسياسيا، أسسسوا مؤسسات كجمعية مكافحة تشويه السمعة، وأصروا على أن قضيتهم يجب أن تُسمع.. عندما وجد اليهود أنفسهم في ورطة، لم ينتظروا أن يفهمهم العالم بالشكل الصحيح، تصرفوا كي ينقذوا أنفسهم»، وهو الدرس الذي يجب أن تتعلمه كل الأقليات المعرضة للهجوم والعدائية: «ليس المهم أن يفهمهم العالم، المهم فعلا أن تفهموا أنفسكم وأن تنقذوا أنفسكم».
يتحدث إدوارد سعيد عن حاجتنا في العالم العربي إلى لغة نقدية وثقافة واسعة النطاق، لا إلى شتائم متبادلة ومرادفات بلاغية للقتل السياسي، حاجتنا إلى لغة تتطور من خلال نقد السلطة بشكل رئيسي، لغة تجعلنا قادرين على البوح بما نؤمن به في عالمنا، بدون أن يطغى علينا النموذج الأصولي المستلب تجاه الماضي، حاجتنا إلى التخلص من الشعور بالريفية والعزلة، الذي يسودنا في العالم العربي، لاحظ أنه كان يقول ذلك في سنة 91، وحتى الآن لم تتغير التفاصيل التي تحدث عنها، فنحن حتى الآن «لسنا طرفاً في النقاش الدائر في العالم، لا في أدبنا ولا في أعمالنا الفكرية، عجزنا عن المشاركة يقع على عاتقنا بشكل كبير، نحن في مركز الاهتمام العالمي، لكننا دائماً خارجه»، وهو ما رأى سعيد أنه لا طريق للخلاص منه «سوى بتثبيت ذواتنا، من خلال الاندماج بقضية أو حركة سياسية، تجعل الفرد يماثل نفسه ويربطها بقضايا متعلقة بالعدالة والمبادئ والحقيقة»، ومع أنه يسخر بمرارة من كون القضايا التي طالما ربط نفسه بها فاشلة، ولا أمل لديها في النجاح في المستقبل القريب، لكنه يعلن أنه «لم يفقد الأمل، ولم يُشف من التفاؤل، وربما كان في ذلك حماقة، وربما كان التفاؤل مرضاً عُضالاً»، لكنه يبني تفاؤله على أهم درس تعلمه الفلسطينيون، وربما تعلمه بعض الإسرائيليين أيضاً، وهو أن «لا خيار عسكرياً بيننا، يمكنهم أن يذبحونا، لكنهم لن يتخلصوا من كل الفلسطينيين، ولن يطفئوا شعلة الوطنية الفلسطينية».
حين يسأله أحد محاوريه عن شعوره تجاه المعارك التي لا يتوقف عن خوضها، يقول إن أكثر ما أزعجه أنها حرمته من نعمة الخصوصية، بعد أن أصبح معروفاً في أوساط كثيرة بسبب ظهوره الإعلامي، فخرجت أفكاره عن نطاق سيطرته، لتجد من يتلقاها ويشكلها مسبقاً بما يحسبه وجهة نظره، سواء من زاوية التعاطف أو المنافرة، فأصبح عليه أن يبذل جهداً ضخماً كي يضبط نفسه ولا ينجرف إلى اليأس، لأن تبادل وجهات النظر مع الناس أصبح من الصعب جداً «ينطبق هذا على الجمهور عربياً كان أم أمريكياً»، لكنه يؤكد أنه ليس مهتماً بأن يكون لديه أتباع ولا يريد لأحد أن يكون مثله، ولا يهمه تسليم الناس علباً مليئة بالأساليب المرشحة للتطبيق، فهو لا يكتب لشخص ما، بل بمناسبة ما، والأهم أنه يكتب لنفسه أيضاً، وليس لقارئه المفترض فقط.
في ظل وضع معقد كهذا، يعبر إدوارد سعيد عن توقه الدائم ككاتب مستقل إلى حريته، وحلمه بالتخلص من كل هذا التشكيل المسبق لأفكاره، مستشهداً بقصة تروى عن الكاتب المسرحي الألماني الشرقي هاينر موللر، حين سئل بعد سقوط الشيوعية: «ألست متحمساً الآن بعد ما خُلعت القيود، لتكتب مسرحيات تتطرق إلى الوضع السياسي والحكومة وما إلى ذلك» لكنه قال: «لا، في الحقيقة تعني الحرية الآن حرية قراءة بروست، حرية البقاء في البيت، في مكتبتي»، وهي حرية لم ينلها إدوارد سعيد، لكنها لا تزال وستظل حلماً لكل كاتب عربي مستقل.
….
ـ «السلطة والسياسة والثقافة»: حــــوارات مع إدوارد ســـعيد ـ أعدتها وقدمتها غاوري فسواناثان ـ ترجمة نائلة قلقيلي حجازي ـ دار الآداب
٭ كاتب مصري
