أنموذج سوريا الجديدة

د. ماجد الخواجا …. 

بعيداً عن المقارنات والعواطف والانطباعات المسبقة، فقد قدمت السلطة السورية برئاسة السيد أحمد الشرع حتى الآن أنموذجاً مختلفاً تماماً عن بقية النماذج للدول العربية التي أصابتها رياح التغيير وما سمّي بالربيع العربي.
ربما طيلة عقود كان المسرح السوري يدلل على كآبة النهايات لمجريات الأحداث فيها، حيث هناك نظام بوليسي مرعب عمل على تفريخ عشرات النظم الفرعية من الأجهزة الأمنية المنغلقة على ذاتها، وتعمل كل منها بشكلٍ يوحي باستقلاليتها عن بقية الفروع وعن جسد الدولة والنظام.
كانت ثمة جملة شهيرة تتردد عند اختفاء أحد الأشخاص، فيذهب اقاربه للسؤال عنه، ولا يحصل على أية إجابة، كان لزاماً التجوال على عشرات الفروع الأمنية بحثاً عن المختفي قسرياً، حيث لا يعلم فرع عما يقترفه الفرع الآخر. وحيث تسود كلمة « المعلم» وحيث تغيب وتتلاشى كافة القيم الإنسانية، حتى أننا في الأردن فقدنا ربما المئات أو الآلاف كما هو حال اللبنانيين والعراقيين وغيرهم في اعتقالات غير معترف بها من طرف النظام السوري المخلوع.
كم سمعنا عن معتقلين أمضوا عشرات السنين في الزنازين في تدمر وصيدنايا والمزّة العسكري دون تهمة ودون محاكمة ودون معرفة أهاليهم بأماكن اعتقالهم وأسباب الاعتقال لهم. ولم ينج منهم إلا من رحم ربّي عبر تدخلات وازنة وثقيلة ربما بمستوى رؤساء دول أو أجهزة مخابرات، أو عبر دفع الرشاوى الباهظة التي وصلت لمئات الآلاف من الدولارات في سبيل معرفة مصير المختفي، أو ممن تم نسيانهم ببساطة داخل الزنازين وخرجوا ذات غفلة ضمن تسويات معيّنة.
نظام كئيب بائس يتغطى بلبوس القومية والزعيم الخالد والحزب القائد، يتغطى بالمقاومة التي تطورت أو تأخرت إلى الممانعة، ليواصل التنكيل بالشعب دون أدنى مساءلة أو خشية من افتضاح ممارساته القمعية، كانت الشعارات تملأ الطرقات والجدران بما يدعى « التوازن الإستراتيجي» من أجل تحرير الأرض المستلبة، حتى اعتبر أنه صاحب القضية الأول، وأنشأ لأجل ذلك أفظع جهاز أمني بوليسي وأسماه « فرع فلسطين» فرع توحّدت تحت سياط التعذيب فيه كافة الجنسيات العربية والإقليمية وبعض العالمية. في فرع فلسطين اختفى المغربي والجزائري والليبي والتونسي والعراقي والسوري واليمني والمصري والكويتي والسوداني وطبعاً كان النصيب الأكبر للأردني والفلسطيني واللبناني.
عودة للعهد الجديد في سوريا، فقد مضى ثلاثة أشهر على استلام السلطة، كان الخوف من حمامات دماء ومن إعلانات الإنفصال، من التدخلات الخارجية، من عدم المقدرة على تولّي السلطة، من عدم الحصول على دعم الدول العربية وخاصةً المعنية منها بالوضع السوري. من تفشّي روح الثأر والانتقام التي تغلي في العروق طيلة عقدٍ من الزمان المهان المستباحة فيه الكرامة والأرض والعرض.
لكن المشهد الذي أبهج القلوب حتى الآن، تمثّل في إعادة سوريا لحضنها العربي بهدوء ودون منغصات، الدعم الكبير من مختلف دول العالم للواقع السوري الجديد، عدم الإنجرار خلف رايات الثأر والانتقام، والتعامل الحضاري مع كافة المكونات المجتمعية، التفاف الشعب السوري خلق القيادة الجديدة والإصرار على وحدة الشعب والأرض السورية. الانفتاح على كافة القوى الفاعلة وتقديم صورة ديمقراطية معقولة بعد عقود من القيود والتعتيم وكتم الأنفاس، التمكّن من إعادة المكون الكردي عبر اتفاقية ثنائية تؤكد على وحدة الشعب والأرض السورية، تحجيم الفلتان والعبث من بقايا فلول النظام المخلوع، بدايات طيبة ومشجعة لإحياء الإقتصاد الوطني وتعزيز موارده، طمأنة الدول المجاورة خاصةً الأردن ولبنان بوقف تجارة الكبتاجون والتهريب وتوطيد علاقات صحيّة وأخوية دون زعم التفرّد والتابعية لأي نظام. حقن الدماء السورية والانتهاء من الميليشيات العسكرية وإعادة بناء الدولة والجيش على أسسٍ حضارية حداثية. وقف التدخّل الخارجي الذي كان يتغذّى على إفشاء الطوائفية وتعزيز الكراهية وروح القتل بين مكونات الشعب الواحد.
هذا هو الأنموذج الذي كنا نتمناه لكافة الدول والنظم السياسية العربية، أنموذج يقوم على بث الروح الوطنية الحقيقية، وإحترام إرادة الشعب في تقرير مصيره ومستقبله، أنموذج يعلي من شأن الإنسان وكرامته، ويستند إلى منظومة قانونية تكون هي المرجع الأساس للجميع. أنموذج يبني ويحافظ على الموارد مع التغيير حيثما وجب ذلك.
سوريا تم استلامها بدون وقود، وبلا كهرباء ولا غاز، مفلسة رصيدها صفر من العملة الصعبة، تضخم لا ينتهي وليرة لا قيمة لها، لا أمن، لا صحة ولا تعليم، ممتلئة بالشبيحة، مدمرة مدنها وبلا أدنى بنية تحتية، دولة محطمة تحت حكم فاشستي قضى على مقدراتها. دولة الخوف والطائفية والكراهية والبراميل المتفجرة والقتل بالكيماوي والاحتماء بالصفوي والروسي وتقطيع الجغرافيا وأوصال سوريا. دولة الكبتاجون والتهريب. دولة الأقلية الحاكمة المهيمنة والأكثرية المهانة المستباحة.
نعم نريد حصول جميع المكونات على الحقوق الأساسية والمواطنة الكاملة للجميع، لكن علينا أن نتذكر بأن هناك أغلبية عظمى تم قهرها وتهميشها لعقود طويلة.
نتمنى الخير كله لسوريا والسوريين، ونحن الأقرب إلى الجغرافيا والشعب في سوريا، الذي تقاسمنا معه الوجع والحلم، ولا أعتقد أن من دخل من سوريا إلى الأردن باحثاً عن الأمان وعن بعض الحرية والطمأنينة، إلا ويحمل عرفاناً عظيماً للأردن شعباً وقيادةً وجيشاً. وكيف ننسى رجال الوطن وهم يؤدون واجب حماية الهاربين من بطش النظام المخلوع، فقد رأيناهم وهم يحملون الأطفال ويساعدون الكبار في سبيل الوصول إلى مأمنهم في هذا الوطن الأشم الكريم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.