«أنا» أم «نحن»؟

«في أحد فصول الإدارة، أجلس في المقعد ذاته في المقدمة كل يوم، وفي كل يوم يجلس بجانبي طالب أجنبي بالكاد يتكلم لغتي. هذا الطالب عنده عادة غريبة، فكل مرة يضع كل أغراضه في مكاني وعلى طاولتي: حقيبته، كتبه، طعامه وهاتفه.
كلما أدخل الفصل، يصرخ «آه أنت هنا»، ثم يبدأ بلملمة أغراضه من طاولتي وضبها في حقيبته، ثم يقول بلغة مكسرة «جاهز للدرس»، ثم يرفع يده للسلام على طريقة
high five. كنت أنزعج كلما دخلت الفصل لأجد كراكيبه على طاولتي وأفكر «يا رجل انت تعرف أني أجلس هنا كل يوم، فلماذا تكدس أغراضك عندي؟» كان يزعجني، فآخر شيء كنت أريد أن أفعله أن أساير وأجامل هذا الشخص الذي بالكاد يتحدث لغتي وأعطيه high five الساعة الثامنة صباحاً.
يوماً من الأيام كنت متأخراً قليلا على الحصة، وقفت خارج الفصل لدقائق لأجري مكالمة هاتفية سريعة، كان يمكنني رؤية القاعة من زاويتي، وكالعادة كان مكاني مليئاً بأغراض ذاك الشاب الأجنبي. فجأة تقدم طالب آخر ليجلس في مكاني، فما كان من الطالب الأجنبي إلا أن اعتذر منه قائلاً، هذا مكان صديقي العزيز وهو قادم الآن. حينها فقط فهمت أن ذاك الطالب لم يكن يوزع أغراضه على طاولتي لإزعاجي بل ليحجز لي مكاني، والأكثر إيلاماً أن كل تلك الفترة كان يراني كصديق بينما أنا كنت مشغولاً بالتفكير بنفسي فقط غير آبه له.
دخلت الفصل، وكالعادة أعطاني الـ«هاي فايف» ولملم أغراضه، وفي نهاية المحاضرة قررت أن أدعوه إلى الغداء. كان طالباً وافداً من الشرق الأوسط، يدرس ويعمل ويرسل ما يجنيه إلى زوجته وابنيه في بلده. سألته: هل أنت سعيد في أميركا؟ قال «الغربة صعبة وليس كل الأميركيين لطفاء معي مثلك».
في نهاية القصة التي كتبها الطالب الأميركي على «تويتر»، كتب «لا تفعل ما فعلته أنا، لقد استغرقني فصل كامل لأعي أن كل ما أراده ذاك الشاب هو أن يكون صديقي، وكل ما فعلته أنا هو التفكير بنفسي فقط».
التفكير بالآخر، الغيرية، الإيثار صفات قليل منا يمتلكها. ننشغل بالحياة وبهمومنا ومشاكلنا وكل ما يخصنا، ننغلق على أنفسنا غافلين أن هناك آخرين حولنا، ووجودهم يثري حياتنا ويجعلها أجمل. فالإيثار صفة حميدة يتصف بها إنسان نبيل عندما يقوم بعمل لا يعود بالفائدة عليه بل على غيره، دون انتظار مردود أو منفعة.
أن تفسح الطريق لسيارة خلفك، أن تسمح لشخص متعب بالمرور في طابور مزدحم، أن تعطي كرسيك إلى سيدة، أن تفتح الباب لمرور آخر، كلها أفعال بسيطة لا تكلفك شيئاً لكنها تمنحك سعادة داخلية لك وللمتلقي، هذا إن لم نأتِ على ذكر الإيثار الأكبر كأن يمنح شخص كليته لغريب، فهل هناك إيثار أكبر وأجمل من هذا؟
في زمن يزداد نزوعنا نحو الفردية والتفكير بـ«الأنا» المتضخمة، تزداد قيمة التفكير بالآخر والتعاطف مع الغير والإيثار، فرغم كل ما نراه من نرجسية وأنانية وحب الذات، ما زلنا نرى من يقدم غيره على نفسه ليجعل العالم مكاناً أفضل لـ«نحن» بدلاً من «أنا» فقط لو ننتبه..!

دلع المفتي
[email protected]
dalaaalmoufti@

قد يعجبك ايضا