وقف إطلاق النار في غزة: تجادل المظالم المحلية وحسابات إقليمية

ابراهيم درويش

 

جاءت الأحداث الأخيرة في غزة على خلفية العملية الإسرائيلية عندما دخلت وحدة من القوات الإسرائيلية القطاع واغتالت القيادي في الجناح العسكري لعز الدين القسام نور بركة، وستة آخرين، إلا ان الغطاء الأمني للعملية انكشف حيث استطاع مقاتلو حماس ملاحقة الدورية التي قامت بالعملية وقتلوا جنديا برتبة عقيد قاد المهمة.

وكما هو الحال، ردت حماس بسلسلة من الغارات الصاروخية وقنابل الهاون، وأطلقت أكثر من 400 صاروخ في أقل من 24 ساعة فيما ردت إسرائيل بضرب 130 هدفا بما فيها مقر قناة “الأقصى” الفضائية التابعة لحماس.

وكشفت الأحداث الأخيرة عن هشاشة الوضع القائم في غزة وقلة الخيارات أمام كل طرف. وأن أي سوء تقدير كما في العملية الأخيرة يؤدي لتفجير الوضع وربما قاد لحرب رابعة بعد الحروب الثلاثة التي شهدها القطاع منذ عام 2008 وكانت آخرها حرب عام 2014 والتي قتل فيها 2250 فلسطينيا معظمهم من المدنيين مقابل 70 إسرائيليا. وقد أدت هذه الحرب الشاملة والتدمير الواسع على غزة إلى ترك أكثر من 100.000 فلسطيني بدون مأوى. ومن هنا فقرار وقف إطلاق النار الأخير وإن أعطى كل طرف مساحة للتفكير، على الأقل في الوقت الحالي، والعودة لما كان يجري العمل عليه من إجراءات برعاية مصرية وبتوجيه أمريكي لتخفيف حدة التوتر على السياج الحدودي والذي قتل عليه منذ بداية مسيرات العودة الربيع الماضي، مئتي فلسطيني وجرح الآلاف بسبب استخدام الجنود الإسرائيليين الرصاص الحي. وكانت الأمور قبل العملية الأمنية الفاشلة تسير في باتجاه تخفيف الحصار، حيث استؤنفت عمليات شحن الوقود لزيادة مستوى الطاقة الكهربائية التي يحصل عليها السكان. وقدمت دولة قطر 15 مليون دولار سمح لحكومة حماس توفير الرواتب لموظفي الخدمة المدنية التي رفضت السلطة الوطنية برئاسة عباس توفيرها إلا إذا تخلت حماس عن سلاحها. وكان الطرفان على حافة حرب شاملة جديدة بسبب تزايد معاناة مليوني فلسطيني يعيشون في ظروف مأساوية وأكبر سجن مفتوح في العالم. ولم يكن أي طرف يريد الحرب. وكما جاء في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية هذا الصيف: “كل طرف يتعرض لضغوط شديدة ويحاول دفع الآخر إلى الحافة” بالإضافة إلى أن كل طرف لديه رؤية غير واقعية عن الآخر.

تصعيد خطير

ومن هنا فعندما يتم اتخاذ قرار غير صائب فالأزمة تصبح حقيقية وكبيرة كما ورد في افتتاحية “الغارديان” (14/11/2018). وبهذه الطريقة كشفت الموجة الجديدة من العنف عن معضلة كل طرف، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإن حذر من حرب ضرورية كان يؤجج أوراها مع وزير الدفاع المتطرف المستقيل أفيغدور ليبرمان يواجه مطالب من اليمين في إئتلافه بالرد القاسي على قادة حماس وهو مطلب على ما يبدو لسكان البلدات القريبة من غزة الذين خرجوا في تظاهرات وأشعلوا النار في الإطارات مطالبين باغتيال قادة حماس. وهم يعرفون أن اغتيالهم يعني شن حرب شاملة لا يريدها نتنياهو ولا الإدارة الأمريكية التي تواجه تداعيات مقتل الصحافي مقتل جمال خاشقجي وتريد تسويق “صفقة القرن” التي يعمل عليها جارد كوشنر وجيسون غرينبلات، وظهرت ملامحها الأولى من خلال اعتراف دونالد ترامب بالقدس والتضييق على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” أي فرض حل لصالح إسرائيل. فحرب جديدة لن ينتصر فيها طرف ولا بد من هدنة واسعة والبحث عن حل دبلوماسي. ففي تقرير للجنة رقابية حكومية إسرائيلية عن حرب 2014 كشف عن دور نتنياهو فيها وعدم استعداد إسرائيل لرد حماس وتجاهلها للوضع الإنساني المتدهور في القطاع. إلا ان مشكلة أي هدنة وحل لوضع مرتبط بالمدى الذي سيذهب فيه نتنياهو وحماس في تقديم تنازلات، فالأخيرة وزعيمها في غزة يحيى السنوار، راغبة في فتح المعابر وحرية الحركة على المعبرين اللذين تسيطر عليهما إسرائيل ومعبر رفح الذي تديره مصر. وتوسيع مجال الصيد إلى 14 ميلا بحريا وفتح المجال أمام سكان غزة للعمل داخل إسرائيل. إلا أن اتفاق وقف إطلاق النار وضع تحديات أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يواجه دعوات بإجراء انتخابات مبكرة وتهديدا من حلفائه في الحكومة وغضبا شعبيا. وتقول صحيفة “واشنطن بوست”(15/11/2018) إن نتنياهو قد لا يذهب بعيدا في تقديم تنازلات لاعتبارات داخلية مع أن موقفه الداخلي قوي وحزبه الليكود متقدم في استطلاعات الرأي. ويتحدث بثقة بسبب علاقاته مع ترامب، فقد اعتبر من يتحدثون عن “احتلال” للضفة الغربية بـ “الكلام الفارغ” وربما كان نتنياهو بموافقته على هدنة مع حماس يريد إضعاف السلطة الوطنية الضعيفة أصلا. فقادتها العلمانيون كما تقول الصحيفة، لا يمانعون بقيام إسرائيل بسحق حماس وهذا خيار يعني احتلالا دائما لغزة أو فراغا يسمح لجماعات متشددة الاستفادة من الوضع وتهديد إسرائيل.

إيران أخطر

وبهذه المثابة يظل خطر حماس أقل من إيران وحزب الله، حسب الخبيرة كاثرين زيمرمان، من معهد امريكان إنتربرايز في تصريحات نقلها موقع “ذا هيل” (15/11/2018) “بالنسبة لإسرائيل القلق أقل من حماس وأكثر من حزب الله والأحداث في سوريا، وهنا يريدون تركيز جهودهم”. ويمكن قراءة الأحداث ضمن هذه الرؤية وربما كان قرار وقف إطلاق النار بمثابة نقطة تحول لكل من نتنياهو وحماس، كما يرى برنارد أفيشاي، في مقال نشره موقع مجلة “نيويوركر”. وتساءل عن معنى التحول بالنسبة لنتنياهو وحكومته أو ما تبقى منها ولحماس وقادتها المحاصرين. فمن الناحية الظاهرية عاد الطرفان إلى الشروط التي تم الاتفاق عليها بعد الحرب الدموية عام 2014. ويعلق، أن رد فعل كل من ليبرمان ووزير التعليم نفتالي بينيت، ليس غريبا فلطالما عارضا نتنياهو ليعودا ويعملان معه. ويعتقد أن استقالة ليبرمان مرتبطة بمحاولته تحليل نفسه من المسؤولية والتقرب لليمين المتشدد خاصة الصوت الروسي. ومن المعلوم أن ليبرمان وجه في عام 2016 تهديدا إلى إسماعيل هنية طالبه بتسليم جثث جنود إسرائيليين ومنحه 48 ساعة وإلا قام باغتياله. وبعد عامين لا يزال قادة حماس أحياء ولم تعد جثث الجنود. ولكن المهم في اللعبة الداخلية ليس بينيت أو ليبرمان ولكن نتنياهو، الذي اصطف مع المؤسسة العسكرية التي أصرت دائما على عقد اتفاقية في غزة على خلاف قادة الليكود الذين أردوا المواجهة. ومثل أرييل شارون الذي أعلن عام 2003 أنه يريد تفكيك المستوطنات في القطاع من جانب واحد والخروج، يرى نتنياهو أن الوضع القائم في غزة يعني دفع ثمن باهظ. ففي الصيف الماضي واجه رئيس هيئة الأركان المشتركة غادي إزينكوت ليبرمان، بشأن المساعدات الإنسانية التي قال انها مهمة لمنع حرب جديدة. وحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” التي نقلت فيه حينه عن قائد بارز في القيادة الجنوبية “يجب على إسرائيل التفكير في ترتيبات مع حماس في ظل الوضع الإستراتيجي للحركة وعزلتها الدبلوماسية وحالة الضغط المتزايدة التي يعيشها السكان وتطلعهم لتحسين ظرفهم الاقتصادي” وبدون هذا سيظل الجيش يواجه عملية “إدارة حوادث تكتيكية” واندلاع للنار قد يقود لتصعيد شامل. ويواجه نتنياهو مشكلة مع المؤسسة العسكرية التي أغضبها عام 2016 عندما عين ليبرمان في منصب وزير الدفاع محل موشيه “بوغي” يعلون في خطوة اعتبرها الجيش لا مسؤولة.

طريق شارون

ومع ذلك فالخطوة الحالية لرئيس الوزراء تقترح المسار نفسه الذي مشاه شارون من قبل ويقوم على مواصلة الوضع القائم في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وتغيير وضع غزة. وهي خطوة قد تكون كافية للفوز خاصة أن نتنياهو سيخوض الانتخابات المقبلة بدون منافس، ويضمن فترة خامسة حتى في ظل الأزمة في غزة حسب صحيفة “نيويورك تايمز” (16/11/2018) ونقلت الصحيفة عن ميتشل باراك، المحلل السياسي في القدس “عادة ما يحقق نتائج جيدة في أمور الأمن” ولا أحد من المنافسين له في اليمين واليسار والوسط لديه الخبرة التي يملكها في شؤون الأمن و “لا منافس له” و”ينافس نفسه”. وهذا لا يعني أن الأزمة الأخيرة لم تؤثر عليه كما يقول يهودا بن مير “فمن الباكر كتابة نعيه” مضيفا أن بريقه وقوته تلقى ضربة. ويرى يوغاز هيندل، مدير المعهد للإستراتيجيات الصهيونية، إن رصيد نتنياهو قليل عندما يتعلق الأمر بغزة. وفي المقابل عندما يتعلق الأمر بمن سيخلفه “فإنك أمام العقدة النفسية، فمن ناحية هناك خيبة وعدم وجود من يخلفه من ناحية أخرى” مضيفا أن المعارضة الإسرائيلية “لا قيمة لها في هذا السياق”. وقال لو سمحت حكومة وسط بنقل 15 مليون دولار لحماس لتخفيف الوضع لضجت كل البلاد غاضبة. ويرى معظم الإسرائيليين أن هناك ثلاثة خيارات للتعامل مع حماس: الأول هو هدنة طويلة الأمد وإعادة تأهيل القطاع. الثاني ضربة قوية لحماس لا تقوم منها أبدا، والثالث بين الخيارين وهو ضربة لحماس تمنعها من تحقيق أهدافها ثم الحوار معها. وفي الوقت الحالي قرر نتنياهو أن لا يتحرك نحو حرب “غير ضرورية” والاتفاق الأخير هو رهن المواقف الإسرائيلية وما يمكن أن يصدر من حماس، فطالما ظلت الحدود هادئة فهناك امكانية للتحرك.

السنوار

ولا تختلف معضلة نتنياهو عن تلك التي يواجها السنوار الذي جعل نفسه كما يقول أفيشاي في “نيويوركر” رهن ظروف لا يسيطر عليها ورفع من توقعات الناس أن الأمور ستتحسن.  ولتحقيق هذا يقتضي مقايضة متبادلة، لكن السنوار لا يريد التخلي عن شرعيته الأخلاقية. فرغم براغماتيته وسنوات السجن الطويلة التي قضاها ومعرفته بلغة عدوه، إلا أنه لا يستطيع تقديم تنازلات دون موافقة الأطراف الأخرى في غزة مثل الجهاد الإسلامي وبدون مقابل مادي مثل البضائع وساعات كهرباء أطول. وفي الوقت نفسه يعرف السنوار، أن الخيارات ضيقة لغزة. ففي مقابلة مع صحيفة “لاريببلكا” الإيطالية قال “لو هوجمنا فسنرد وسندافع عن أنفسنا وكما هو الحال فسنخوض حربا أخرى” و “لكنك لو عدت مرة ثانية فسأخبرك أن الحرب لم تحقق شيئا”.

السيسي وحلفاؤه

 ويرى أفيشاي، أن هناك بعدا إقليميا لما يجري في غزة، فالأطراف التي كانت حيوية في الدفع باتجاه التهدئة لها مصالحها الخاصة، خاصة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والذي ضغط بشدة على محمود عباس القبول بالجزء المتعلق بالسلطة من الاتفاق. ولا توجد علاقة حب بين السيسي وحماس التي يراها ابنة للإخوان المسلمين لكنه يتعرض لتحديات أمنية واقتصادية ضخمة. فنصف المصريين يعيشون تحت خط الفقر أو عليه. ويأكل ملايين المصريين “العيش” يوميا لأن الحكومة المصرية تستورد القمح وتدعمه. وأظهر السيسي رغبة لتحالف أوسع مع السعوديين والأردنيين والإسرائيليين أكثر من اهتمامه بالمظالم الفلسطينية. ويقول عز الدين شكري فشير، الدبلوماسي المصري السابق: “يعرف السيسي أن تصعيد حماس لا يغير من وضع الفلسطينيين في غزة ولكنه خسارة كبيرة له لأنه يشعل الشارع المصري ويضع ضغوطا على الشراكة المصرية – الإسرائيلية” خاصة في قتال الإسلاميين التي كانت مخفية وأصبحت الآن واضحة وأصبحت مهمة من ناحية الموقف الأمريكي “وإرضاء أي إدارة أمريكية التي تكتب شيكات بمليارات الدولارات وتساعد في توفير الحبوب خاصة إدارة ترامب التي تحاول بناء تحالف إقليمي ضد إيران”. ويرى أفيشاي، أن وقف إطلاق النار من أجل وقف العنف المحلي بات يعتمد على توسيع تحالف يمكن أن يؤدي لعنف أكبر. والمفارقة السوداء هي أن معاناة غزة يتم تخفيفها لأن المظالم التاريخية الفلسطينية لم تعد ذات قيمة للعالم العربي كي يهتم بها.

قد يعجبك ايضا