من وعد بلفور إلى جنوب اليمن: مشروع التجزئة المستمر
أحلام الصوفي …..
منذ مطلع القرن العشرين، لم تكن السياسات البريطانية في المنطقة العربية مجرد احتلال عسكري، بل مشروعًا استراتيجيًا طويل الأمد يقوم على التفتيت والتقسيم وزرع الكيانات الوظيفية لخدمة مصالحها ومصالح حلفائها. وكانت البداية الكارثية من خلال وعد بلفور عام 1917، ذلك التصريح المشؤوم الذي منح اليهود “وطناً قومياً” في فلسطين، متجاوزًا حقوق الشعب الفلسطيني، ومؤسسًا لواحدة من أخطر بؤر الصراع في التاريخ الحديث.
هذا الوعد لم يكن حادثًا معزولًا، بل محطة في مسار واضح رسمته بريطانيا لتقسيم العالم العربي والإسلامي، بدءًا من تفكيك الدولة العثمانية، وتقسيم بلاد الشام، مرورًا باتفاقيات سايكس بيكو، وإنشاء أنظمة محلية تابعة شكليًا ذات سيادة، لكنها مرهونة وظيفيًا لخدمة الأهداف الغربية.
ما جرى في أرض الصومال — حين أُعيد تدوير فكرة الانفصال، وصناعة كيان “مستقل” بدعم بريطاني غير مباشر — ينسحب اليوم على المشهد في جنوب اليمن، حيث تتكرر ذات الأدوات والسيناريوهات: خلق صراعات داخلية، تغذية النزعات المناطقية والقبلية، ثم تقديم مشروع الانفصال كحل “مُنقذ”، بينما هو في الحقيقة تكريس للتجزئة، وفتح للباب أمام الهيمنة الأجنبية، سواء بواجهة استعمارية مباشرة أو عبر واجهات من الأنظمة الإقليمية الوظيفية.
الجنوب اليمني، كما الصومال سابقًا، يعيش مرحلة حساسة يتم فيها تسويق الانفصال تحت شعارات مختلفة، بينما الحقيقة أن ما يحدث هو إعادة إنتاج للنفوذ البريطاني القديم عبر أدوات إماراتية وسعودية — وبدعم غربي غير مرئي — لتمرير مشروع “الجنوب العربي” ككيان تابع، وظيفته ضرب وحدة اليمن وإضعاف موقفه السيادي تجاه قضاياه الوطنية والإقليمية.
إن وحدة الهدف السياسي بين وعد بلفور وواقع الجنوب اليمني اليوم، تكشف أن المشروع الغربي لم يتغير؛ فقط تغيرت أدواته. فالهدف واحد: تفتيت الجغرافيا العربية، وإنهاك الشعوب، وتمكين الكيان الصهيوني ومنظومة الهيمنة من البقاء والسيطرة.
لذا، فإن مواجهة هذا المشروع لا تكون بالشعارات، بل بالوعي السياسي، وتعزيز الوحدة الوطنية، ورفض التبعية للخارج، وبناء مشروع تحرري حقيقي يقف في وجه مشروع التقسيم الجديد بأدواته الناعمة والخشنة على حد سواء.
الكاتبة من اليمن