على هامش ثورة «السترات الصفر»: وثائقية الأدب
منصف الوهايبي
ما أزال أتذكر من دروس الفلسفة في أواخر الستينيات من القرن الماضي، قول أستاذنا الفرنسي المسيو سيريس رحمه الله «ليس هناك طبيعة إنسانية ثابتة»، وأن ما هو موجود فعليا من الأشياء، إنما يتعلق بفرديات لا بكليات. و«الكليات» حدود يضعها العقل البشري بدافع الرغبة في إدراك حقائق الأشياء. ويبدو أن «الفضاء المعرفي» أو «أبستيمي» بلغة أهل الفلسفة؛ ونعني ذاك الذي يتم ضمنه التعلق بإمكان مفهوم كلي للأدب وغيره، فضاء منشدّ إلى سقف «النسق». و«الفضاء المعرفي» إنما هو جملة الإجراءات المفهومية والمنهجية التي تسم نشاطا أدبيا كالذي نحن فيه، من أمر «وثائقية الأدب»، في هذا العصر، حيث نعيش منذ النصف الثاني من القرن الماضي، ثورة في العلم والتكنولوجيا؛ لها أثر لا ينكر في شتى النظم الاجتماعية والثقافية؛ ومنها الأدب. وأما مقولة النسق فتدور على كل خطاب معرفي، سواء تعلق بممارسة فكريةً نظرية مجردة أو بممارسة فكرية إجرائية عمليةً.
والأرجح أن الذين يتعجلون تحديد مفهوم «وثائقي» بما هو الحد الكلي لهذا الجنس من الكتابة، إنما هم واقعون في حبائل النزعة الإسمانية التي تُسند الاعتقاد في المصطلح من حيث هي تفيد الميل إلى إحلال الاسم محل الحقيقة، أو تفيد – بتحديد أدق – كون حقيقة الشيء اسمه.
وربما جاز أن نُشرع دلالة المصطلح على دلالة المفهوم، على أساس أن المفهوم موحد اصطناعيا لجملة من الأحكام؛ ولكنه ليس مفهوما بالمعنى الذي يكون فيه المفهوم مجردا، أي متَمثلا من صميم الشيء نفسه؛ والأدب الوثائقي أجناس وأنواع أي هو مفاهيم. وبسبب من ذلك ينبغي ألا نقع في الخلط بين تصور للمفهوم، يمكن أن نسمَه بـ«فطراني»؛ وهو الذي يبحث تحديد الشيء ضمن بنية الذات باعتبارها تشتمل على مبادئ فطرية، أو ما نسميه تجوزا «طبيعة إنسانية» وهي غير ثابتة، وبين موقف يمكن اعتباره «خبرانيا» يدور أساسا حول ربط المفهوم بوشائج ممكنة مع العالَم؛ وهو يلتقط المفهوم من عملية تمفصل بين الذات والمرجع، أي الأدب وأصوله في السياق الذي أنا به، أي ينبغي عدم التورط في الخلط بين تصور للمفهوم يعتبره قبليا، أي هو موجود حتى من قبل أن يوجد الشيء فعليا، مثل هذا الصنف من «الأدب الوثائقي»، وتصور للمفهوم يعتبره بعديا، أي يوجد والشيء الذي هو مفهوم له موجود بعد.
والأرجح أن الذين يتعجلون تحديد مفهوم «وثائقي» بما هو الحد الكلي لهذا الجنس من الكتابة، إنما هم واقعون في حبائل النزعة الإسمانية التي تُسند الاعتقاد في المصطلح من حيث هي تفيد الميل إلى إحلال الاسم محل الحقيقة.
هل لهذه الوثائقية أيديولوجيا، وهي التي تتسع في الرواية خاصة، لشتى المذاهب والمدارس؟ هل لها قوانين تضبطها وتحدها؟ وهل هي مظهر من مظاهر «الحداثة» عند العرب المعاصرين؟ نحن نقول عادة إن الحداثة الغربية عامة تعلي من شأن»الفردانية»، بل من تضخم الذات؛ وهي من «مــــــوت الإله» عند نيتشه، إلى «موت الإنسان» عـــــند فوكو، وما إلى ذلك مما دأبنــــا على ترديده؛ في ما نحن نشهد اليوم كيف نعيش «اندماج» الطبقة العاملة والطبقـــة الوسطى؛ في ثورة «السترات الصفر». ولا ضير من أن أستطرد قليلا، لأشير إلى أن الكلمة الفرنسية Gilet/ Jalikah
تتحدر من أصل عربي مغاربي»جليقة»، وقد ذكرها جون دو تيفونوت (1633ـ1667) في وصف رحلته إلى المشرق عام 1664 وكان يحملها العبيد والأسرى المسيحيون. وهي تتحدر من التركية؛ وليست عربية قحة، إذ أن الجيم واللام والقاف ليست أصلا ولا فرعا، كما جاء في مقاييس ابن فارس. على أن ترجمتها بـ«السترة» غير دقيقة، لأن السترة في لسان العرب هي كل شيء استترت به كائنا ما كان. ولعل الأفضل الاحتفاظ بها في صيغتها في المحكية عندنا «الجيلية» كأن نقول»الجيليات الصفر» أو «الصدرات أو الصدريات الصفر».
وحتى لا يحجزني الاستطراد أقول إن كل ما نعيشه في خضم هذه الثورة التكنولوجية، وهذا التاريخ الذي نراه يُصنع أمامنا؛ وما يقال من ضرورة حماية الإنسان العاقل من الإنسان الصانع، يجعلنا ننسب الكثير من أحكامنا ومسلماتنا، فثمة في الآداب الغربية توجه إلى سيطرة البنية على الشخصية، أو ما يسميه روبرت شولز انحطاط فردانية الشخصية الوظيفية، في الرواية الحديثة، وظهور التنميط، إلى لغة روائية تلتف على نفسها، وتتحول من أداة معرفة إلى موضوع معرفة، وما إلى ذلك من الرؤى التي تجعل الحداثة حداثات؛ أو هي تنشأ في ظل ما نسميه «غياب الأب»، واحتجابه قد يخفي أبا آخر «شرعيا». فإذا حاولنا أن نرد هذه الوثائقية إلى حداثة واحدة، كنا مثل بعض البنيويين الذين يرون كل قصص العالم في قصة واحدة أو بنية واحدة. إن ظاهرة الوثائقية «تبولوجيا» معقدة يندرج فيها الآخر وخطابه وتترجح فيها ذات الكاتب
بين أن تكون هي هي، وأن لا تكون، فهي طورا وحدة ثابتة تتطابق وخطابها
وتتزامن؛ وطورا آخر تبحث خارج فضائها عن خيط ينتظمها. وهذا الخارج هو فضاء الآخر و خطابه. وهي ذات معنى ملتبس حيث الكتابة وحدها تجلو هذا التقطع وتجسمه وتوضحه، وهي تضفي عليه بعدا فضائيا مرئيا يسمح بإخضاعه لترتيبات وتنسيقات فنية مخصوصة. وأقصد ها هنا صعوبة التمييز اليوم في كثير أو قليل من النصوص، بين العمل الأدبي الذهني والعمل البدني اليدوي مثل كتابة النقر على الحاسوب. ولا بد من تنسيب هذا الحكم، ولذا قلت «في كثير أو قليل» فأنا لست مطلعا على كل هذا الأدب الذي يكتب؛ ولا أحب أن أتعجل فأقطع بالقول إن المسافة بدأت تضيق بين ثقافتين: ثقافة الأنتلجينسيا الفنية العلمية والأنتلجينسيا الأدبية. وهو موضوع كان قد بسط فيه القول الكاتب وعالم الفيزياء الأنكليزي شارل برسي سنو (1905 ـ 1980) في مصنفه «الثقافتان والثورة العلمية»، وما أحوجنا إلى نقله إلى العربية؛ ونحن نعيش هذه الثورة التكنولوجية وما يرافقها من تغيرات تزاحمنا في مسالك عيشنا، وفي آدابنا.
لتعترف بأن «الوثائقية» مفهوم غير مؤسس في ثقافتنا؛ إذ لا يعدو الأمر أكثر من «نقل» عن المراجع الغربية.
لتعترف بأن «الوثائقية» مفهوم غير مؤسس في ثقافتنا؛ إذ لا يعدو الأمر أكثر من «نقل» عن المراجع الغربية. وهي لا تعني الواقعية كما نعرفها في روايات بلزاك وزولا ودوستويفسكي وديكنز ونجيب محفوظ وإميل حبيبي والطيب صالح وغيرهم، وإنما النزوع إلى التوثيق على نحو ما نجد عند الألماني جنتر ولراف الذي يدعو إلى استخدام اللغة المحكية بدل الأدبية الفصيحة، وصرف النظر عن «الرواية الخيالية»، أو عند هينريش بول وهو ينسج بعض رواياته من مواد وثائقية مثل»صورة جمعية مع سيدة» وقد حولت إلى فيلم عام 1976 أو مانفرد فرنك… حتى أن هذا النزوع يكاد يكون ظاهرة ألمانية، ولذلك نتريث كلما تعلق الأمر بأدبنا، فالأخذ بمفهوم لم يتأسس بعد يمكن أن يفضي إلى خلط غير يسير بين التيارات والاتجاهات، بدون سند من اختبار النصوص والاستئناس بها، ووثائقية واسيني الأعرج مثلا ليست وثائقية إبراهيم عبد المجيد. نعرف أن كلا منهما يستأنس بالزمنية الخطية مرجعا وثائقيا، غير أننا ما أن نقرأ النص»لا أحد ينام في الإسكندرية» لإبراهيم أو «مي ليالي إيزيس كوبيا» لواسيني؛ حتى ندرك أن الزمنية الروائية عندهما لولبية لا تتوزع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنما هي حاضر أبدي. وهو حاضر يدعونا إلى إعادة النظر في وظيفة الأدب، وهو الذي يتغير اليوم. وهي وظيفة ما انفكت تزداد هشاشة في مجتمعاتنا العربية، لا بسبب ظهور محامل ووسائط معرفية أخرى يتعاطى معها كثيرون بمنطق تزجية الفراغ أو «تمضية الوقت» بعبارتنا اليوم؛ وليس بمنطق التحصيل المعرفي، وإنما لأسباب عديدة مرتبطة في الجملة بتفشي الأمية، وباهتزاز المنظومة التربوية والتعليمية. وما حققه أدبنا من هذه الوظيفة ليس أكثر من معرفة مجتزأة مفتتة لا ترتقي إلى محل المقاربة المتكاملة لمسألة ما أو وضعية معينة؛ فضلا عن كونها لا تسمح برؤية ذات دلالة لكينونة الفرد أو المجتمع. ويكاد هذا الأدب يكون في عداد المنسيات مقارنة بالسينما أو المسرح أو بعض المسلسلات مثل «ليالي الحلمية» مثلا، فهذه الفنون تقدم حوارا فعالا بين الآداب والفنون إلى حد التماهي أحيانا، ويتحاشى بعضها الأبنية الخيالية، ويمكن أن نسمها بـ«الدراما الوثائقية».
لعل هذا ما جعل بعض الفرنسيين ينتبه إلى بعد استشرافي في ثورة «السترات الصفر» يمكن أن يجعل الكتابة تحتل موقع المراقب، وهي في وسط الحدث؛ حتى ليمكن القول إن الأدب بدأ يتعلم من الصحافة ومن طريقتها في رصد الوقائع وتوثيقها وتسجيلها، أو ما يسميه ترومان كابوت (1924 ـ 1984):»الرواية الخيالية بلا خيال»، وهي تسمية فيها مقدار كبير من الصواب؛ والقارئ المعاصر مأخوذ أكثر بالأعمال الأدبية غير الخيالية، من سير وذكريات ويوميات ووقائع تاريخية. ولعل هذا ما يسلب الأدب سمة «الجميل» ويضفي عليه سمة العلم، أو يجعله يرتبط بالتكنولوجيا على نحو مثير.
٭ كاتب من تونس