من يحسم المعركة القانونية في محكمة العدل الدولية جنوب أفريقيا أم إسرائيل …؟
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات ….
بعد أن كان العالم كله يجلس خلف الشاشات يتفرج بما فيه العرب على مجازر المجرم نيتياهو في قطاع غزة.
تحركت دولة جنوب أفريقيا وأحالة القضية على محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، ويطرح اليوم هذا السؤال الوجيه وهو : إسرائيل أم جنوب أفريقيا من يحسم المعركة في محكمة العدل الدولية…؟ والحديث اليوم بأن إسرائيل لم تتسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم فحسب، بل إنها تظهر أيضاً لا مبالاة قاسية بمصير سكان قطاع غزة، وأن إسرائيل قدمت إلى محكمة العدل الدولية تقريرها الذي يتضمن تفاصيل الإجراءات ألتى أتخذتها للأمتثال لأمر المحكمة الصادر في شهر كانون الثاني/ جانيوري 2024، وكانت المحكمة قد أمرت إسرائيل بإتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع أعمال الإبادة الجماعية في قطاع غزة وضمان توفير الخدمات الأساس والمساعدات الإنسانية فوراً لسكان القطاع، وذلك بعد أن قدمت جنوب أفريقيا شكوى تتهمها بأرتكاب إبادة جماعية في حق الفلسطينيين، وأن إسرائيل أفادت في تقريرها الذي أعدته وزارتا العدل والخارجية بأنها تنفذ أوامر المحكمة، وشرحت بالتفصيل الخطوات ألتى أتخذتها لتقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة، فضلاً عن التدابير ألتى يتخذها كبار المسؤولين القانونيين ومسؤولو إنفاذ القانون ضد أولئك الذين ربما أدلوا بتعليقات تحرض على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، بما في ذلك كبار المسؤولين الحكوميين، وتزعم إسرائيل أنها تفعل كل ما في وسعها لتجنب سقوط ضحايا بين المدنيين، وتستهدف فقط مسلحي حماس، لكن تكتيك حركة حماس المتمثل في التغلغل في المناطق والمؤسسات المدنية يجعل من الصعب تجنب سقوط ضحايا من المدنيين، وكانت قد ركزت المحكمة الدولية في حكمها على الأوضاع الإنسانية المأسوية في قطاع غزة، والذي يشهد حرباً طاحنة منذ أكثر من خمسة أشهر، ومن ثم سيكون على إسرائيل تقديم دليل على أحترامها لأتفاقية منع الإبادة الجماعية الصادرة في عام 1948 والموقعة عليها، إضافة إلى تقديم دليل على أتخذتها إجراءات لمنع التحريض ومعاقبته، وذلك لمنع وقوع جرائم الإبادة الجماعية، هذا في وقت تقول فيه منظمة العفو الدولية أمنستي بأن إسرائيل تقاعست عن إتخاذ الحد الأدنى من الخطوات للأمتثال لقرارات المحكمة الدولية، وأن السلطات الإسرائيلية لم تمتثل لأمر ضمان وصول ما يكفي من السلع والخدمات المنقذة للحياة إلى السكان المعرضين لخطر الإبادة الجماعية والذين هم على حافة المجاعة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل وتشديد الحصار غير القانوني الذي تفرضه منذ 16 عاماً، ولم تتسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم فحسب، بل إنها تظهر أيضاً لا مبالاة قاسية بمصير سكان القطاع من خلال إنتاج الظروف ألتى قالت محكمة العدل الدولية إنها تعرضهم لخطر وشيك للإبادة الجماعية، وأن إسرائيل فشلت مراراً وتكراراً في إتخاذ الحد الأدنى من الخطوات ألتى ناشد العاملون في المجال الإنساني بشدة إتخاذها وألتى من الواضح أنها في حدود سلطتها للتخفيف من معاناة المدنيين الفلسطينيين في غزة، وأن عدد شاحنات المساعدات ألتي تدخل غزة إنخفض فعلياً بمقدار الثلث تقريباً منذ صدور قرار محكمة العدل الدولية، وأن الحكومة الإسرائيلية تجوع 2.4 مليون فلسطيني في غزة، مما يعرضهم لخطر أكبر مما كانوا عليه قبل قرار المحكمة الدولية الملزم، لقد تجاهلت الحكومة الإسرائيلية ببساطة حكم المحكمة، وفي بعض النواحي كثفت قمعها، بما في ذلك عرقلة المساعدات المنقذة للحياة، وتبقى إسرائيل برئاسة المجرم النتن ياهو تلقي تارة اللوم على الحكومة المصرية زاعمة أنها تغلق معبر رفح ولا تسمح بمرور المساعدات، وهي مزاعم أثبتت مصر زيفها مراراً وتكراراً، وتارة أخرى تلوم الأمم المتحدة في تراجع تسليم المساعدات، وتقول إنها مستعدة لتسريع عملية تخليص المساعدات، كما تقول السلطات الإسرائيلية إن “حماس” تخزن الإمدادات وتمنعها من الوصول إلى المدنيين، وكانت قد رفضت محكمة العدل الدولية طلباً عاجلاً تقدمت به دولة جنوب أفريقيا قبل أسبوعين، للنظر في ما إذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية ألتي تستهدف رفح في غزة تنتهك الأوامر الموقتة التي أصدرتها المحكمة في نهاية كانون ثاني الماضي قائلة : إن الوضع لا يتطلب الإشارة إلى تدابير موقتة إضافية، وإن إسرائيل لا تزال ملزمة الأمتثال الكامل لألتزاماتها بموجب إتفاقية منع الإبادة الجماعية، في وقت تبقى فيه جنوب أفريقيا تبدي إصراراً على تعقب الأنتهاكات الإسرائيلية في حق فلسطينيي غزة، وأن قتل الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون المساعدات في غزة الأسبوع الماضي، يمثل إنتهاكاً للأوامر الموقتة ألتى أصدرتها محكمة العدل الدولية، وأن إسرائيل قدمت تقريراً إلى محكمة العدل الدولية، وتستعد دولة جنوب إفريقيا للرد عليه، وأن الدعوة الفورية وغير المشروطة لوقف إطلاق النار أصبحت الآن ضرورة أخلاقية لإنقاذ الأرواح، لكن بينما تستمر المعركة داخل أروقة المحكمة الدولية في لاهاي، فما الأوراق ألتى تعدها دولة جنوب أفريقيا وهل تواصل إسرائيل أنتهاكاتها…؟ ويقول مراقبون ومحامون دوليون إنه بالعودة إلى حكم محكمة العدل الدولية في كانون ثاني الماضي، فإن الإجراءات ألتى طلبتها دولة جنوب أفريقيا تم تقليصها بصورة كبيرة، إلا أنه من المتوقع إستمرار العمليات العسكرية، فخلال جلسات الإستماع، قالت إسرائيل إن قواتها المسلحة تلتزم بدقة قواعد القانون الإنساني الدولي، وشددت أيضاً على التدابير ألتى تتخذها لتخفيف المعاناة ومشاركتها في المساعدات الإنسانية، وفي الوقت نفسه بدأ مكتب المدعي العام الإسرائيلي بإتخاذ إجراءات لقمع السلوك الذي يحرض على الإبادة الجماعية. ووفق المعهد الملكي إلكانو في مدريد، فإنه لم يطلب من إسرائيل أن تفعل أي شيء لم تزعم أنها تفعله بالفعل، وفي حين كان يتوقع معهد الأبحاث الإسباني أن يكون ” شرط تقديم إسرائيل تقريراً خلال شهر واحد، دافعاً لمزيد من الإعتدال في إستخدام القوة المسلحة وملاحقة قضائية أكثر شدة لأولئك الصهاينة الذين ينتهكون حدود حرية التعبير، فإن الوقائع على الأرض جاءت على النقيض، فخلال شهر شباط/ فيبروري الماضي كثفت إسرائيل عملياتها العسكرية في القطاع، حتى إنها قتلت عشرات المدنيين خلال توزيع مساعدات غذائية وواصلت تهديدها بأقتحام مدينة رفع ألتي تكتظ بالسكان الفارين من شمال القطاع، وفي دفاعها عن نفسها، زعمت إسرائيل أنها وجدت أيضاً أن حجم الخسائر في صفوف المدنيين والدمار في غزة يفطر القلب، وأنها تبذل قصارى جهدها لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، ومع ذلك رفضت تقليص العمليات العسكرية، وأصرت على ضرورة مواصلة قصف ومهاجمة غزة حتى تقضي على حماس، وأن مهمة جيش الإحتلال الإسرائيلي المتمثلة في تفكيك البنية التحتية العسكرية لـ حماس في قطاع غزة وتأمين تحرير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الحركة، لا تتعارض بطبيعتها مع ما نصت عليه المحكمة بأنه يجب على إسرائيل إتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع إلحاق الموت أو الإصابة بالفلسطينيين في غزة في حد ذاته، ويجب أيضاً أن توفر لهم الخدمات الأساس والمساعدات الإنسانية، وأن إسرائيل كثيراً ما زعمت أنها تواصل العمل بهذه الطريقة على وجه التحديد، على رغم الظروف المعقدة لمحاربة جماعة مسلحة متجذرة بين السكان المدنيين، والأهم من وجهة نظر إسرائيل هو أن محكمة العدل الدولية أمتنعت عن إصدار أي دعوة لوقف فوري لإطلاق النار، ويعتقد مراقبون ومحامون دوليون أن جنوب أفريقيا أخطأت عندما قيدت نطاق الدعوى القضائية من خلال حصرها في مسألة الإبادة الجماعية، وكان قد وجه زعماء العالم بمن فيهم الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وملاحقة حماس إنتقادات لإسرائيل بسبب القصف العشوائي الذي أدى إلى مقتل مدنيين أبرياء في غزة، بما في ذلك النساء والأطفال، بأعداد غير مسبوقة في التاريخ الحديث، ومن خلال إغفال إدراج حركة حماس كطرف في إجراءات محكمة العدل الدولية، أضاعت جنوب أفريقيا فرصة المحاولة الفعلية لوقف الصراع من خلال إرغام الجانبين على وقف القتال، وهناك اليوم من يقول بأن المحكمة لم تر أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي، كما أنها لم تأمرها بإنهاء الحرب ضد حماس، وهو ما سعت إليه جنوب أفريقيا وما أمرت به المحكمة في السابق في ما يتعلق بالحرب ألتى شنتها روسيا على أوكرانيا، وبدلاً من ذلك، أصدرت محكمة العدل الدولية ببساطة تعليماتها إلى إسرائيل بالأمتثال لأتفاقية منع الإبادة الجماعية، وهي ملزمة الفعل، بإعتبارها دولة موقعة على تلك الأتفاقية منذ عام 1950، أن إتفاقية منع الإبادة الجماعية ليست الوثيقة الوحيدة ألتي كان من الممكن أن تلجأ إليها بريتوريا، وكان من الممكن أن تستشهد أيضاً بأتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977، وهي مجموعة من المعاهدات ألتى تلزم جميع الدول بصورة أو بأخرى عند خوض الحروب والنزاعات المسلحة، وتجرم إتفاقيات جنيف 1949 القتل العمد والتسبب المتعمد لمعاناة كبيرة للسكان المدنيين، فضلاً عن تدمير الممتلكات المدنية بما يتجاوز الضرورة العسكرية، فيما يفصل بروتوكول 1977 مبدأ النسبية ويحظر الهجمات العشوائية، ويقول ( أوسوجي ) في أي حرب تتضارب فيها الإتهامات والإنكار لأنتهاك هذه المعايير، فإن الملاذ القانوني المناسب هو طرح المسألة على محكمة العدل الدولية، تماماً كما فعلت دول مثل هولندا وكندا في قضيتها ضد سوريا في شأن أنتهاك إتفاقية مناهضة التعذيب، وبغض النظر عن الأسس الموضوعية القانونية أو تلك الأوراق ألتى يمكن أن تستخدمها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، هناك من يرى بأنه من المفيد أن تقوم الدول برفع هذا النوع من الإجراءات إلى محكمة العدل الدولية، لأنها ترغم المجتمع الدولي على مواجهة مشكلة الصراع المسلح، إذ تسمح هذه القضايا للقضاة بتجاوز كل الضجيج السياسي للإجابة عن الأسئلة القانونية، خاصة وأن المحاكم الدولية الآن هي الأمل الأخير للإنسانية في عالم سخرت فيه الدول إمكانات العلم لتحقيق أقصى قدر من الدمار، في حين فشلت قدرة الأمم المتحدة على كبح ويلات الحرب إلى حد كبير، وهناك اليوم تساؤلات كثيرة عن من يحسم المعركة في العدل الدولية جنوب أفريقيا أم إسرائيل …؟
المحامي الدولي فيصل الخزاعي الفريحات