*فادي السمردلي يكتب:عبدة الأوامر يحوّلون التطوع والعمل إلى ديكتاتورية*

*بقلم فادي زواد السمردلي*  …..

 

*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال*

👈 *المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود.*👉

الطاعة العمياء ليست انضباطاً، وليست احتراماً للتسلسل الإداري، وليست حتى حرصاً على الاستقرار كما يحاول البعض تبريرها إنها ببساطة شكل ناعم من أشكال الانهيار الداخلي، تسري في منظومات العمل مثل السم البطيء، حتى تُفرغها من معناها وتحيلها إلى هياكل صورية تكرر ذاتها بلا روح فحين يتصرف العضو او الموظف أو المسؤول وكأن عقله معطّل، يطبّق الأوامر دون تفكير، ينفّذ التعليمات حتى لو كانت خاطئة، ويخشى الاعتراض خوفاً من التهميش أو العقاب، فإن هذه المؤسسة قد دخلت فعلاً في طور التآكل الذاتي، مهما بدا سطحها لامعاً أو توهّمت هي لنفسها النجاح.

لكنّ الكارثة الأكبر تظهر حين تنتقل هذه العقلية البائسة إلى منظومات العمل التطوعي كالأحزاب التي يُمنع فيها العضو من طرح رأيه بحرية، الجمعيات التي تُدار بعقل فرد واحد، المبادرات الشبابية التي تُخنق فيها النقاشات، كلّها أمثلة صارخة على كيف يمكن للطاعة العمياء أن تدمّر حتى أكثر المساحات حيوية وتنوعاً ومن المفترض أن تكون هذه المنصات ساحات للفكر، للاختلاف، للنقاش الحرّ، لكنها ما إن تقع في قبضة عقلية الطاعة، حتى تتحوّل إلى نسخ رديئة من البيروقراطية الرسمية قرارات فوقية، صمت جماعي، تصعيد للمطأطئين، وإقصاء للمفكرين.

في العمل التطوعي، حيث لا راتب ولا سلطة قانونية، يُفترض أن يكون الانخراط مبنياً على القناعة والحوار والانتماء للفكرة لا للشخص ولكن عندما تهيمن الطاعة العمياء، يصبح القائد هو المؤسسة، وتُختزل الفكرة في اسمه، وتتحول المبادرة من مشروع مجتمعي إلى عبادة فرد. كل صوت ناقد يُصنَّف خائناً، وكل سؤال يُتّهم بأنه تخريبي، وكل اختلاف يُقصى تحت غطاء “الوحدة التنظيمية”. وهكذا، بدل أن تنتج هذه الكيانات وعياً جماعياً ونضجاً ديمقراطياً، تُعيد إنتاج نفس المرض الذي ادّعت أنها قامت لمحاربته.

المشكلة هنا ليست فقط إدارية، بل أخلاقية بالدرجة الأولى. الطاعة العمياء تقتل جوهر الفعل التطوعي، لأنه يقوم أصلاً على الحرية فأي منظومة تطوعية تمنع أعضاؤها من التفكير الحرّ والاعتراض العلني، تفقد شرعيتها فوراً فلا يحق لأي جمعية أو حزب أو نقابة أن تتحدث باسم الناس، بينما في داخلها يُخنق صوت الإنسان فمن يربّي أفراده على أن يقولوا “نعم” في كل اجتماع، ولا يسمح لأحدهم بأن يقول “لا” دون أن يُعاقب، لا يبني تنظيماً، بل يؤسس ديكتاتورية مصغّرة ملفوفة بعناوين نبيلة.

والأسوأ أن هذه المنظومات، حين تُصاب بالطاعة العمياء، تفقد قدرتها على التجديد فلا أفكار جديدة، لا مبادرات نابعة من القواعد، لا تصعيد للكفاءات، فقط إعادة تدوير للوجوه، وترديد للبيانات، وتجميل للشلل. وعند أول خلاف حقيقي، تنهار بسرعة، لأنها لم تُبنَ على الحوار، بل على الخضوع فلا أحد يجرؤ على مواجهة الانحراف، لأن الثقافة السائدة علّمتهم أن الطاعة أعلى من الصدق، وأن الولاء للأشخاص أهم من الولاء للفكرة.

حتى الأثر النفسي لا يُستهان به ففي هذه المنظومات، يُصاب الناشط بالإحباط، يفقد احترامه لذاته، ويبدأ بالانسحاب بصمت أو التماهي مع الرداءة العامة فالطاقات تذبل، والأصوات المبدعة تهاجر، ويبقى فقط من يكرر، وينفّذ، ويُرضي. وهكذا، تتحوّل بعض الأحزاب والجمعيات من منابر تغيير إلى مقابر مفتوحة للأمل والعمل.

الخطورة هنا ونحن نرى أن الناس يتوهمون أنهم “يخدمون المجتمع”، بينما هم في الحقيقة يساهمون في تسميمه بصمتهم وتواطئهم وخوفهم من الاعتراض فالطاعة العمياء في العمل التطوعي ليست خطأ عابر، بل جريمة ضد كل ما يُفترض أن يمثله هذا القطاع: الحرية، المبادرة، الصدق، والانتماء لفكرة لا لفرد.

إن أي مؤسسة تطوعية لا تفتح باب النقاش والاعتراض والاختلاف، لا تختلف في بنيتها العميقة عن أعتى النظم القمعية، حتى وإن لبست ثوب “التغيير” و”الإصلاح” و”العمل المجتمعي”. الشعار لا يصنع الشرف، والتنظيم لا يُطهر من الفساد، والطاعة لا تبني شيئاً فوحده العقل الحرّ، والكلمة الشجاعة، والبيئة التي تسمح للناس بأن يُفكروا، هي التي تبني.

في النهاية، من يدير العمل التطوعي بعقلية الطاعة الصماء لا يخدم الوطن ولا المجتمع، بل يُعيد إنتاج ذات الخراب الذي يدّعي مقاومته ومن يقبل أن يكون صامتاً داخل منظومة كهذه، يتواطأ، ولو بسكوته فالطاعة العمياء، في أي موقع عام أو تطوعي، هي خيانة للفكرة، وللثقة، وللناس.

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا