نحن وهم… حكاية أردنية لا تعرف الانقسام

بقلم العميد المتقاعد هاشم المجالي. …………..

لم أتعلم معنى الأخوّة من الكتب، بل عرفته من الوجوه، ومن البيوت المفتوحة، ومن القلوب التي لم تسأل يومًا عن دين الداخل إليها.
عرفته أول ما عرفته من جدّتي وضحى بنت موسى بن عبدالقادر المجالية، تلك المرأة التي ذاقت الفقد حتى امتلأ قلبها صبرًا، ولم يبق فيه إلا الرجاء.
كانت كلما وُلد لها طفل، اختطفه الموت منها، حتى نذرت نذرًا أن تعمّد كل طفل يولد لها في كنيسة الروم في حي الزريقات، إيمانًا منها بأن الله واحد، وإن اختلفت طرق الوصول إليه.
وكان جدّنا قدر بن صالح بن عبدالقادر المجالية، ابن عمّها، قائد هَيّة الكرك التي ثارت على الظلم التركي العثماني في بدايات القرن التاسع عشر، شاهدًا على زمنٍ لم يكن فيه الوطن شعارًا، بل دمًا وموقفًا وكانت كل عشائر المسيحية بالكرك تتظلل تحت رايته وتأتمر بأمره .

عشنا مع عشيرة الزريقات حياة لا تعرف الحساب ولا الموازنة؛ كانوا يقاسموننا المطر والعقدات والطوابين، والغنم والحطب، وعجن الخبز.
كانوا يبدأون حديثهم بالصلاة على النبي محمد ﷺ، ويقفون في ساحات المسجد في حالات الوفاة، وكانوا أوّل من يطرق أبوابنا في أعيادنا، وفي أفراح ولادة الأطفال، وطهورهم، ونجاحهم في التوجيهي، وأعراسهم، وحتى في مماتهم.
كانت والدتي ممن تعمّدوا في الكنيسة على يد الخوري مع موسى الزريقات (أبو جورج)، الذي عاهدها أمام الرب – وهو الله نفسه – أن تكون أخته، وأن يكون خالاتي وأخوالي إخوةً له.
كان أبو جورج ضابطًا في الأمن العام، تقاعد برتبة نقيب، وكان يعايد أمّي وخالاتي كما يعايد أخواته بالدم، وكان أبناؤه ينادون أمّي وخالاتي بـ“العمة الغالية” ونحن كذلك .
ومضت الأيام، ورحل موسى الزريقات أبو جورج، ورحلت والدتي، لكن العلاقة لم ترحل؛ فما زلنا نتفقد أبناءه وبناته وأحفاده، وهم يتفقدوننا في الصغيرة والكبيرة، وكأن الموت لا يجرؤ على الاقتراب من عهدٍ قُطع بالمحبة.
أما والدي – رحمه الله – وكان مختارًا للعشيرة، فكان في كل عيد لإخوتنا المسيحيين يأخذنا بعد معايدة أهلنا عشيرة الزريقات إلى السماكية لمعايدة أولاد عمّنا الحجازين (فخذ العوابدة) الذين كانوا يقفون معنا في الفرح والحزن، ويدفعون معنا حتى الدية المحمدية إن طلبت مننا ، ويحضرون عزاءاتنا لا معزّين، بل مستقبلين، لأن المصاب كان مصابهم.

ولا تستغربوا تعاهد المرحوم عمي الشيخ غانم زريقات ابوعبدالله والمرحوم عمي الشيخ مفظي المجالية قبل أن يرحلا، أن يُدفن من يسبق الآخر بجانبه.
وحين توفي مفظي بن سالم، أخو أمير الغورين الزعيم زعل كان قد أوصى الشيخ غانم أن يُدفن إلى جانبه عند وفاته، ليبقى العهد قائمًا حتى بعد التراب.

في المدرسة، كان معلمونا من أهلنا:
الأستاذ بطرس الزريقات والأستاذ عادل الزريقات في اللغة الإنجليزية،
والأستاذ موسى في اللغة العربية،
والأستاذ فهيم الزريقات في العلوم.
وكان أطباؤنا الدكتور نزيه العمارين والدكتور مكرم العمارين،
وكنا نناديهم جميعًا بلغة العم والخال، لا بلغة الوظيفة.
وفي جامعة مؤتة، كان زميلي بسام عايد دخل الله البقاعين – رحمه الله – توأم الروح، وكان آمر الكلية اللواء راجي نور حداد مثالًا للهيبة والإنصاف.
وعندما عملت في إدارة مكافحة المخدرات، رأيت بأم عيني الضابط معتز أبو جابر – الذي تقاعد برتبة عميد وتولى منصب محافظ في وزارة الداخلية – يوزع مكافآته وراتبه على المحتاجين من زملائه، ويقف بشجاعة في وجه كل ظلم.
هؤلاء جميعًا لا يشكّلون في حياتي سوى واحد بالمئة من أناسٍ لا تسعهم هذه السطور، لكنهم يكفون لأقول:
نحن قد نختلف في الصلاة، والصيام، والزكاة، وتفاصيل العبادة،
لكننا لا نختلف في المحبة، ولا في الوقوف معًا في الفرح والحزن.
إخوتنا المسيحيون في الأردن ليسوا جيرانًا، بل أهل،
ليسوا شركاء وطن فقط، بل شركاء عمر،
هم نحن، ونحن هم،
العزوة والسند، والذاكرة التي لا تشيخ.
كل عام وأنتم بألف خير،
في كل صباح ومساء وفي الصيف والشتاء وفي السماء وعلى الأرض.

نفرح لأفراحكم، ونتألم لآلامكم كل عام وانت سالمين غانمين داعمين للوطن والملك والشعب .

الكاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا