من سريبرنيتشا إلى حلب: ماذا تبقى من متاجر الليبرالية؟
«كلّ ما لاح أنه صلب في الليبرالية، يذوب إلى أثير»، هكذا يستخلص جون غراي، المفكر البريطاني البارز، وصاحب مؤلفات إشكالية وسجالية مثل «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة»، و«يقظة الأنوار: السياسة والثقافة عند خاتمة العصر الحديث»، و«هرطقات: ضدّ التقدّم وأوهام أخرى»، و«روح مسرح الدمى: تحقيق موجز حول الحرّية الإنسانية»، فضلاً عن كتابه الأشهر: «كلاب من قشّ: أفكار حول بني البشر وحيوانات أخرى». وإلى جانب هذا الرأي القاسي حول مآلات الليبرالية المعاصرة، لا يتردد غراي في اقتباس عبارة الفيلسوف الأمريكي مارشال بيرمان، «كلّ ما هو صلب يذوب إلى أثير»، عنوان كتابه الشهير في هجاء الحداثة.
وللمرء أن يبدأ من سلسلة تناقضات، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، تكتنف جاذبية غراي العالمية؛ ولعلّ مبعث اجتماعها، أو ائتلافها في أذهان المنجذبين إلى أفكاره، أنّ الرجل ليس من أهل التفكير الأحادي، الأبيض أو الأسود؛ ولهذا فإنّ الإجماع على أطروحاته إنما ينبثق عملياً من حقيقة أنّ الفكر السياسي المعاصر، ذاته، صار تعددياً بالضرورة، أكثر من ذي قبل، بل أكثر ممّا شهدته أية حقبة استقطابية حادّة في التاريخ الحديث. وهكذا، يدرّس غراي الفكر الأوروبي في «مدرسة لندن للاقتصاد»، التي لا يشكّ اثنان في أنها واحدة من أكثر قلاع الفكر الرأسمالي الحديث حصانةً ورصانةً وعلوّ شأن. وهو، ثانياً، كاتب شبه دائم في الأسبوعية البريطانية «نيو ستيتسمان»، الرصينة بدورها، اليسارية في الإجمال، والتي لا يُعرف عنها الحماس للرأسمال واقتصاد السوق. وهو، ثالثاً وفي التوصيف الأعرض، أكاديمي وفيلسوف وهجّاء للعولمة المعاصرة، الوحشية منها وغير الوحشية (من منطلقات محافظة غالباً، وليست يسارية مبدئياً).
وكانت فرضية غراي الأساسية، في «كلاب من قشّ»، تبعث على القشعريرة، رغم أنها بالغة البساطة: التراث اليهودي ـ المسيحي، وهو الفلسفة الإجمالية التي يرتكز إليها وجدان الغرب أسوة بعقل الغرب، كان يُفرِد الإنسان عن الحيوان في مواهب كبرى مثل الإيمان والاختيار والعقل واللغة والإبداع؛ الأمر الذي لا يتراجع اليوم أو ينحطّ أو ينعدم عند بني البشر فحسب، بل هو ينقلب إلى حيوانية صريحة صارخة مجانية مدمّرة، أين منها سلوك الحيوان! يكتب غراي: «على الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأدباء أن ينبذوا إلحاحهم على مركزية الإنسان واستقلالية عقله، لأنّ المدينة باتت أشبه بقفير النحل، وصفحة الإنترنت باتت تشبه اسمها تماماً: شبكة العنكبوت»!
أفكار غراي الأخرى تقول التالي، على سبيل الأمثلة: صحيح أنّ الأنظمة الشيوعية فشلت، وحاول اقتصاد السوق فرض نموذجه الطوباوي الخاصّ على البشرية جمعاء؛ لكنّ ما جرى في أمريكا يوم 11/9/2001 ينبغي أن يؤذن بنهاية تلك الحملة الصليبية. لماذا؟ لأنّ اليقين الذي ساد خلال العقد الماضي (حول نهاية التاريخ، وصعود الليبرالية التجارية في سياق مدّ لا تقاومه أمّة أو سوق أو ثقافة أو فلسفة)؛ اهتزّ من جذوره أمام مشهد انهيار برجَيْ مركز التجارة الدولي، تماماً كما تنهار قصور الكرتون، وبات طبيعياً أن يهتزّ إيمان الأسواق بحصانة العولمة.
ومؤخراً، في مقالة مستفيضة نُشرت في «نيو ستيتسمان» بعنوان «إغلاق الذهن الليبرالي»؛ يبدأ غراي من استعراض المشهد الكوني الراهن (أوروبا، حروب التبادل، دونالد ترامب، فلاديمير بوتين، أمواج اللجوء، الصين، حلب…)؛ لكي يبلغ خلاصة الفقرة الأولى في مقالته: «النظام الليبرالي الذي لاح أنه ينتشر عالمياً بعد نهاية الحرب الباردة، يتلاشى من الذاكرة». ورغم اتضاح هذا التلاشي، يوماً بعد آخر، فإنّ الليبراليين يجدون صعوبة في مواصلة العيش دون «الإيمان بأنهم في الصفّ الذي يحلو لهم اعتباره الصواب في التاريخ»؛ وبالتالي فإنّ إحدى كبريات مشكلاتهم أنهم لا يستطيعون تخيّل المستقبل إلا إذا كان استمراراً للماضي القريب! وحين يختلف الليبراليون حول كيفية توزيع الثروة والفرص في السوق الحرّة، فالمدهش في المقابل أنّ أياً منهم لا يُسائل نمط السوق المعولمة التي تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبعد الاستفاضة في مناقشة أزمة الليبرالية المعاصرة كما تتجلى في بريطانيا، في محورَيْ أزمة حزب العمال والتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ يردّ غراي السجال إلى جذور الفكر الليبرالي الحديث، في أنه نتاج متأخر من التوحيدية اليهودية والمسيحية: «من تقاليد هذَيْن الدينَيْن، وليس من أيّ شيء في الفلسفة الإغريقية، نبعت القِيَم الليبرالية حول التسامح والحرية. وإذا ساد اليقين بأنها قيم كونية، فذلك بسبب الاعتقاد بأنها فرائض إلهية. ومعظم الليبراليين علمانيون في النظرة العامة، لكنهم يواصلون الإيمان بأنّ قيمهم إنسانية وكونية». المعضلة، بعد هذا التوصيف، أنّ الذهن الليبرالي الحاضر عاجز عن الاشتغال إلا إذا أغلق الواقع، أو عرضه كبضاعة أحادية، في المتجر الليبرالي الوحيد!
ولن نعدم خطاً في التنظير الليبرالي، على غرار تفكير فرنسيس فوكوياما مثلاً، يجزم بأنّ المجتمعات الليبرالية هي وحدها التي يمكن أن تصبح حديثة؛ ليس دون التشديد، أيضاً، على أنّ العولمة تنتج طبقة متوسطة تتطلب الحرية السياسية، تماماً كما افتُرض أنّ البرجوازية الأوروبية اقتفت ذلك الدرب في القرنين التاسع عشر والعشرين. واقع الحال، في المقابل، يشير إلى مشهد متضارب تماماً في ما يخصّ علاقة الطبقة المتوسطة بالأنظمة، خاصة المستبدة وكارهة الحرّية والتسامح؛ ليس في البلدان «المتخلفة» وحدها، بل في بلد متقدم مثل روسيا، حيث يتوزع ولاء الطبقة المتوسطة على مزيج من النزعة الاستهلاكية والنزعة القومية ونصرة النظام. وأمّا أمريكا، في المقابل، فإنّ العولمة تتكفل بتفكيك الطبقة المتوسطة فيها، وتقف السوق الحرّة مكبلة، عاجزة عن المقاومة!
تبقى مسألة حقوق الإنسان، حيث يرى غراي أنها قد أصبحت «عبادة» ليبرالية خالية من المعنى، لأنها فقدت تعريف أغراضها السامية الأولى، وباتت عاجزة عن أداء أدوارها كعوائق رمزية أمام شرور قصوى مثل المجازر الجماعية والاستعباد والتعذيب. والأمثلة من سريبرنيتشا وحلب وسواهما، يكتب غراي، تبرهن أنّ حقوق الإنسان ليست بعيدة عن تأسيس نظام دولي، فحسب، بل هي استُخدمت وتُستخدم لتشريع الغزو الخارجي، وتنظيم التطهير العرقي، وارتكاب جرائم الحرب… وبهذا المعنى فإنها، مثل كلّ القيم التي تزعم الليبرالية أنها كونية، ليست مصانة حتى في قلب المجتمعات الأوروبية؛ حيث بدت، قبل سنوات قليلة فقط، مقدّسة منيعة لا تُمسّ. ولقد رُوجعت، وعُدّلت، بل أخذت تتآكل بصفة مضطردة، حين ساد افتراض عريض بأنها تتناقض مع أمن المواطن، وأنّ مبدأ «محاربة الإرهاب» لا تعلو عليه قيمة.
ويختم غراي، في ما يشبه نعياً جذرياً لليبرالية في متاجرها كافة: «إن الوثوق المتصلب، الممتزج بتفخيم الذات والارتياع، قد عرّفا الذهن الليبرالي في الماضي، كما في الحاضر. يمكن، مع ذلك، رصد مزاج مختلف في باطن هذه الحال، مفاده أنّ كل ما يتبقى من الليبرالية هو الخوف من المستقبل. وفي مواجهة ما يتلاشى أمامهم من عالم خُيّل إليهم أنهم يعرفونه، قد يُصاب ليبراليون كثر بإغواء الانطواء في عوالم متخيَّلة تصنعها منظمات يسارية الهوى، غير حكومية، أو ينغلقون في أروقة الندوات الأكاديمية. ذلك يرقى إلى التخلي عن النضال السياسي، وقد يصحّ أنّ بعضهم، ممّن جسدوا الليبرالية الحاكمة، أخذوا يدركون أنّ زمنهم قد انطوى إلى غير رجعة».
.. وبالتالي توجّب طرح السؤال، المشروع تماماً: بعد حلب، وقبلها سريبرنيتشا، ما الذي تبقى من بضائع القيم، في متاجر الليبرالية؟
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
