النواة العقلانية لليمين المتطرّف الانتخابي
لم يحتفظ أغلب اليمين المتطرّف الانتخابي في الغرب إلا بالنزر القليل من إرث الفاشستية. وصمه بها طوال الوقت لا ينفع سبيلاً لا لفهم ما يخبره لنا هذا اليمين المتطرّف، حول سمة المجتمعات التي يزدهر فيها، أو هو مرشّح فيها للانتشاء، ولا للتنبه لما يطرحه هذا اليمين المتطرّف من تحديات تطاول معاني السياسة ومعاشها ومؤسساتها.
من الهزل مقاربة الأحزاب اليمينية المتطرّفة التي تشارك في العمليات الانتخابية في البلدان الغربية، انطلاقاً من نموذج تشكيلات «حليقي الرؤوس» من النازيين الجدد. طبعاً، يختلف الأمر تصاعدياً كلّما اتجهنا نحو الشرق الأوروبي، إلى الجمهوريات السوفياتية السابقة، حيث يستند اليمين المتطرف إلى إرث نضالي مسلّح حافل، مثل منظمة القوميين الأوكران بقيادة ستيبان بانديرا التي ظلت تخوض حرب أنصار ضد القوات السوفياتية حتى مطلع الستينيات، ومثل الحرس الحديدي في رومانيا، الذي جهد زعيمه هوريا سيما بعد الحرب وقيام النظام الشيوعي في بلده، لأن يجسّر الهوة بين مدرسته في الفاشية وبين نضال الديموقراطيات الغربية ضد الشيوعية. في حالتي بانديرا وسيما نحن أمام شخصيتين تاريخيتين من القرن الماضي ينقسم الموقف منهما بشدة في المجتمعين اللذين ينتميان لهما، وهذا بخلاف قياديي القومية الاشتراكية في المانيا، والفاشية في ايطاليا، حيث لا يدافع عنهما أو يبرّر لهما غير الهامشيين في هذين البلدين. بل إن «الاحترامية» التي يحظى بها بانديرا في اوكرانيا، أو هوريا سيما في رومانيا، لا تقارن بصعوبة أن يستشهد يميني متطرف فرنسي بشارل موراس مثلاً، دون أن تقوم عليه القيامة. اليمين المتطرّف في الشرق الأوروبي لم يعش قطيعة «هزيمة الفاشية» التي نشأ كنتيجة لها، اليمين المتطرف في أوروبا الغربية. وبما إن كل من بانديرا وسيما تعاملا مع الاحتلال الهتلري للشرق الأوروبي وتصديا له في الوقت نفسه، ودخلا في المعتقلات النازية ولو في زنازين «خمسة نجوم»، فقد تحوّلا إلى نموذجين ملحميين للتصدي لكل من التوتاليتارية الشيوعية والتوتاليتارية النازية، من دون أن يتوجب عليها، وعلى الذين ينتسبون إليهم تقديم أدنى كشف حساب عن الجانب الفاشي غير القليل أبداً عندهما، إن كان من باب تمجيد العنف، أو من باب الشوفينية القومية، والتصور العضوي للمجتمع التراتبي المتكاتف النابذ لكل من الفردانية وصراع الطبقات.
في الغرب الأوروبي هذا غير ممكن. جرى التخلي عن مبدأ المزاوجة بين الأساليب القانونية وتلك غير القانونية للنضال، هذا المبدأ المشترك بين الأحزاب الشيوعية والفاشية في وقت من الأوقات. ليس لدى «الجبهة الوطنية» الفرنسية تشكيلات قتالية أو منظمات تعبوية مثل تلك التي يمتلكها اليمين المتطرف الأوكراني. منذ عقدين كان أنصار الجبهة لا يزالون يمارسون أعمال عنف ضد المهاجرين، أو يتواجهون بشكل دام مع قوات الشرطة. توارى هذا المشهد اليوم. صحيح أن ما تطرحه هذه الجبهة في مواجهة المهاجرين هو رجعي وعنصري وأما هو للاستهلاك التعبوي أو أنه يشترط ضرب العقد الاجتماعي الفرنسي نفسه قبل تنفيذ هذه الشعارات. إلا أن هذا اليمين المتطرف انتخابي بامتياز: يعيش كما اليمين واليسار في فرنسا، في زمن انتظاري للاستحقاقات الانتخابية على الدوام. ليس عنده عالم خارج عالم الانتخابات هذا. خارج المسرح الانتخابي. الجبهة الوطنية الفرنسية هي نجمة العام، كون مارين لوبان تتجه لأن تتأهل ليس فقط للدور الثاني من الرئاسيات، بل لأن تتفوق في ما سوف تناله من أصوات في الدور الأول على سائر المرشحين، ما يجعل اتحادهم ضدها في الدور الثاني أمرا هزيلاً سياسيا بصرف النظر عن نتيجته.
وهذه الجبهة تعادي الأجانب نعم، وتبرر لأسوأ الأنظمة الدموية في العالم الثالث، مثل النظام السوري، لكن ما تقبلته بالنتيجة في الداخل الفرنسي من الصعب أن يتقبله يميني قومي اوكراني أو روماني.
الجبهة الوطنية ليست منظمة العمل الفرنسي التي قادها المفكر والأديب شارل موراس، موراس الذي كان في عداد الذين حوكموا وسجنوا لتعاونهم مع الاحتلال الالماني. الجبهة الوطنية لم تعد تهمها الإحيائية الملكية عند موراس، وليس لديها مشكلة مع نشيد المارسييز أو مع العلم ثلاثي الألوان، علم الثورة. بالعكس: «سرقتهما»، وصارت تؤاخذ الغير على عدم الالتزام بهما كرمزين، كرمزين ناضلت أجيال عديدة من أعداء الثورة من أجل التفلت منهما.
بخلاف اليمين المتطرف الاوكراني الذي يعتبر المعركة ضد فلاديمير بوتين معركته، يغري فلاديمير بوتين اليمين المتطرف الانتخابي. لكن هذا الإغراء له دوافعه الطريفة أيضاً. منها أنه يصدر عن لسان حال لا يؤمن بالوحدة الأوروبية. ويعتبر أن بعث الأمم الأوروبية على أنقاض هذه الوحدة الهزيلة هو الأنفع لها وللعالم. ومنها إن اليمين المتطرف الأوروبي تشوبه نزعة معادية ثقافيا لأمريكا، هذا بخلاف اليمين المتطرف في اوكرانيا ورومانيا، حيث كان التواصل مع الاستخبارات المركزية الأمريكية والتعاون معها، مع بداية الحرب الباردة.
هذا الإغراء الذي يمارسه بوتين لا يقتصر أساسا على اليمين المتطرف، هو يشمل تنويعات من اليمين التقليدي نفسه، فرنسوا فيون مثالا، وقسم لا يستهان به من اليسار.
هذا مع التنبيه إلى أن ما يتسم به اليمين المتطرف الانتخابي في الغرب، وما به يتصل بماضي الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية، هو أنه يطرح نفسه كـ»لا يمين ولا يسار». وبوتين بهذا المعنى هو الذروة: لا هو يمين ولا هو يسار، ويغري من اليمين كما يغري من اليسار.
أما الحدود بين اليمين المتطرف وبين اليمين «التقليدي» أو «العادي» أو «المؤسساتي» فلم تعد مطلقة. هي حدود متأرجحة، وأحيانا مندثرة. من جهة، جهد اليمين المتطرف من أجل تقديم نظرة أقل انفعالية له، ومن جهة، فرض اليمين المتطرف بأجندته ضد المهاجرين نفسه، بحيث صار اليمين التقليدي يحاكيه في هذه الأجندة، ويندفع كامل المشهد السياسي نحو اليمين.
أيضاً من جهة اليسار، ورثت الجبهة الوطنية الفرنسية ناخبي «الحزام الأحمر» من المعاقل الشيوعية حول باريس. عزل الجبهة كان دائما مطلبا يساريا لليمين العادي: بأنه ينبغي الإجماع على تهميش اليمين المتطرف. لكن بالنتيجة أجبر فرنسوا هولاند على التطبيع مع لوبان ودعوتها إلى الاليزيه للتحادث معها بعد اعتداءات باريس، والأهم: تقتبس لوبان المطالب الاجتماعية اياها، ليس لليسار، بل لليسار الجذري أيضاً، ولا يمر خطاب إلا وتدين فيه الرأسمالية المتوحشة.
تمنعنا تركة المثقفين اليساريين والليبراليين في الثقافة السياسية العربية من التعامل مع اليمين المتطرف بالجدية الفكرية والسياسية اللازمة. اليمين عند هؤلاء شرّ في ذاته، شيء غير عقلاني، «رجعي»، كما لو كانت الرجعية سبّة، أما اليمين المتطرف فهو الغلو في السوء والجنون. أما الإسلاميون، فإن نزعة كره الأجانب عند اليمين المتطرف الأوروبي، وما تختلط به من «رهاب الإسلام»، تجعلهم يحجمون عن التفاعل مع أفكار ومقاربات فيها الكثير مما هو مشترك مع رواد الحركة الإسلامية. هناك في المكتبة العربية الكثير من الترجمات والكتابات حول اليسار والاشتراكية وأزمة الماركسية وما بعدها، والليبرالية وأخواتها، لكن ماذا عن اليمين، ماذا عن يمين اليمين، ماذا عن نتاج شارل موراس، ماذا عن أطروحة «الثورة المحافظة» لأرمين مولر، ماذا عن كتابات هوريا سيما؟ وقبل كل هؤلاء دو ميستر ودو بونالد وآباء الثورة المضادة في فرنسا؟ استبعاد كل هذا التراث اليميني عن التسرّب إلى الثقافة السياسية العربية هو إلى حد كبير مؤشر لارتياح هذه الثقافة إلى الركود. فرغم كل سيئاته، فضل «يمين اليمين» أنه كان على مدى القرنين الماضيين الأكثر خلطاً للأوراق بعضها ببعض. هذا اليمين الذي لم يؤمن، منذ دوميستر وبيورك، بحقوق الإنسان المجردة، أوجد تراثاً حيوياً وخطيراً في نقد مفهوم حقوق الإنسان، نقد التجريد الذي يقوم عليه هذا المفهوم، نقد فكرة نقل التأسيس من عدم من صلاحية الاله إلى صلاحية الإنسان، نقد فكرة القطيعة مع الزمن البطيء، مع ما راكمته التقاليد. في هذا اليمين المتطرف «نواة عقلانية» أيضاً. في الوقت نفسه تقبل اليمين المتطرف الأوروبي الغربي بالنتيجة فكرة تداول السلطة، والفصل بين السلطات، وليس هناك ممسك جدي ضده من هذه الزاوية. ما هو غير عقلاني هو الاعتقاد بأن هذا اليمين المتطرف سوف يتراجع تحت وطأة التشهير بفاشيته الفضفاضة طول الوقت. ركود اليمين واليسار التقليديين هما المشكلة، وليس حيوية يمين اليمين.
٭ كاتب لبناني
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
