نهاية الإعلام الورقي

د. ماجد الخواجا …….

لم يعد العالم نتيجة لهذه الثورة التقنية مجرد قرية صغيرة كما وصفها مارشال ماك لوهان، وإنما تحول إلى غرفة أو مبنى واضح المعالم والأبعاد كما قال المفكر الإيطالي تشارلز كولي.
منذ بدأت الصحف العالمية المرموقة الإعلان عن توقف صدورها الورقي وسط تحول غير مسبوق نحو رقمنة الإعلام الذي تأثر بشكل مباشر وفوري وقوي بأمواج تسونامي التكنولوجيا الرقمية منذ مطلع الألفية الثالثة. حيث بدأت تتهاوى امبراطوريات الإعلام الكبرى التي لم تواكب التغير ولم تمتلك المرونة الكافية من أجل إعادة هندسة وبناء منظومتها الإعلامية، فشاهدنا إغلاقات لعديد من الصحف الورقية التي بدأت بالصحف الأسبوعية والمسائية والمتنوعة، فيما بقيت تجاهد وتكابر عديد من الصحف اليومية وخاصة تلك المدعومة والمعبرة بشكل مباشر عن الإعلام الرسمي للدولة. لكن في ظل الإستنزاف للموارد وزيادة العجز والأعباء المالية والتي تفاقمت إلى درجة الاستفحال والمرض المزمن الذي لا شفاء له إلا بالبتر والتخلص نهائيا من العضو المتعفن الفاسد .
يعود صدور أول نسخة إلكترونية في العالم إلى عام 1993 بعد أن أطلقت صحيفة “سان جوزيه ميركوري” الأميركية نسختها الإلكترونية، تلاها تأسيس صحيفتي ديلي تليغراف (Daily Telegraph) والتايمز (Times) البريطانيتين لنُسْخَتِيهما الإلكترونية.
عربيًّا، وتزامنًا مع إصدار صحيفة النهار اللبنانية لنسختها الإلكترونية، أصدرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية نسختها الإلكترونية عام 1995، بينما تُعتبر صحيفة إيلاف، الصادرة في لندن عام 2001، أول مِنَصَّة إلكترونية عربية. ومع تطور الإمكانات المتاحة على الإنترنت ظهرت المواقع الإخبارية التي كانت في البداية تابعة لمؤسسات وشبكات إعلامية، مثل: موقع “الجزيرة نت” و”العربية نت”، قبل أن يُفتح الباب على مصراعيه لآلاف المواقع الإلكترونية، وهو ما مَهَّدَ الطريق لظهور المدوَّنات التي تُمَثِّل أبرز أنواع الإعلام البديل؛ الأمر الذي دفع باتجاه ضرورة التمييز بين ما يطلق عليه اسم صحيفة إلكترونية وموقع إخباري إلكتروني، ومدونة(Blog). فيما أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي المجال لما تدعى بالصفحة الشخصية للأفراد ، كما أتاحت فرص الظهور المرئي في الوقت والمكان الذي يرتأيه أي فرد في أي دولة ويوجه رسائله لأي جمهور. إن ” كلوب هاوس ” الذي أصبح فضاء واسعا لحرية الكلمة والقول المرئية هو نتاج تطور هائل يشق الصفوف الأولى ليتوج رمزا للإعلام الرقمي المفتوح.
بدأت أزمة كبرى واجهت الصحف حول العالم بعد فقدان سوق الإعلانات لصالح المنصات والشركات الرقمية ما أظهر أثرا كبيرا في توقف صحف ورقية عالمية عريقة عن الصدور ومنها ” الإندبندنت” البريطانية، مجلة “نيوزويك” الأميركية، صحيفة ” كريستيان ساينس مونيتور”، وكذلك صحف عربية مثل: ” السفير، والنهار، والمستقبل، والحياة” اللبنانية.
في مستهل مقالة، ردد ليمان أسئلة سبق أن طرحها الصحفي الأميركي هوراس وايت أوائل القرن الماضي، من قبيل: لماذا تعج الصحافة بعدد كبير من الأشخاص سيئي السمعة والمخادعين؟ وما السبب وراء رواج وباء الصحافة الصفراء ؟ إن هذه الأسئلة تنطبق على الصحف التي تروق لها الإثارة والجريمة والفضائح والبذاءات، والصور المضحكة والكاريكاتيرات والنميمة البغيضة أو التافهة عن أشخاص أو أشياء لا تهم الجمهور. كان للصحافة حينها العديد من الأهداف: سياسية وأدبية وعلمية واجتماعية ودينية وإصلاحية ومزيج من هذا وذاك، وكان القائمون على الصحف الورقية يرونها مفيدة للمصلحة العامة.
لم يكن واردا من أجل كسب المال أن تنساق الصحافة في ذلك الوقت وراء رذائل المجتمع وحماقاته، حتى لا تزيد طين الخطايا بلة. فالصحفيون – بحسب مقال نيكولاس ليمان- يحملون بين جوانحهم حنينا أبديا لتلك القيم، ويزعجهم ما آلت إليه أحوال مهنتهم اليوم.
عندما ظهرت الإنترنت بشكلها الشعبي العام كوسيلة لتبادل المعلومات في تسعينيات القرن الماضي، اعتبرها كثير من الصحفيين بمثابة “هبة من الله”، وكان بإمكان أية صحيفة أن تتحول من نسخة مطبوعة إلى وسيلة رقمية تصل إلى أكبر عدد من القراء دون تكلفة تذكر، وتوفر عناء طباعة وتوزيع النسخة الورقية.
إن محرك بحث جيد يمكنه جذب جمهور أكبر دون الحاجة لإنتاج أي مواد صحفية أصلية مطلقا، وإن شبكة تواصل اجتماعي بمحتواها الذي أنتجه أساسا مستخدموها أنفسهم، يمكنها أن تعيد تكرار نفس العمل.
ولأن الإنترنت وسيط ديمقراطي (غير مركزي) وغير رسمي، فلا بد أن يكون لها مدونون إلى جانب المراسلين التقليديين، لكن هذا وحده ليس كافيا، إذ يتعين أن تُضخ فيها كميات وافرة من المواد بواسطة جيوش من مساهمين لا يتل…

قد يعجبك ايضا